ثلاثينية السيمفونية، كتب سعد القاسم:
في الرابع عشر من كانون الثاني عام 1993 قدمت الفرقة السيمفونية الوطنية حفلها الأول، وكان ظهورها إلى الوجود تتويجاً لجهود سنوات طويلة، وحلما قديما تحقق بفضل نهضة ثقافية شاملة امتدت بين النصف الثاني من السبعينات ومطلع القرن الجديد، وتجلت فيما تجلت، بإنشاء مكتبة الأسد الوطنية، وتأسيس المعهدين العاليين للمسرح والموسيقا، ودار الأسد للثقافة والفنون التي ضمت أول دار للأوبرا، والتوسع الكبير في إصدار الكتب الثقافية، كماً ونوعاً، وفي اقتناء أعمال التشكيليين السوريين، وإقامة مهرجاني المسرح والسينما، وبينالي الفنون التشكيلية، وإصدار المجلات الفنية الفصلية المختصة في مجالات المسرح والسينما والفنون التشكيلية والموسيقا.
كان نجاح الحفل الأول مقدمة نجاحات كبيرة رافقت الفرقة السيمفونية الوطنية في حفلاتها التالية داخل سورية وخارجها.
وفي ظل الحفاوة الثقافية والاجتماعية الكبيرة التي استقبلت بها، لم تعدم من عَمِلَ، بدوافع مختلفة، على تشويه صورتها والتقليل من أهميتها كإنجاز ثقافي حضاري، غير أن الفرقة بالمقابل وجدت مدافعين رفيعي المستوى في مقدمتهم فارس الكلمة الناقدة الأديب صميم الشريف الذي واكب حفلات الفرقة بمقالات نقدية عميقة وعارفة، وتصدى بكبرياء لبعض الأقلام الصفراء التي سعت لتشويه كل عمل مشرق، وكذلك الدكتور صادق فرعون، والإعلامي فاهيه تمزجيان. وللأمانة يُسجّل لصحيفة (الثورة) انتصارها لمشروع الفرقة، سواء من خلال مقالات ضيوفها أو عبر كتابات محرريها.
فبعد الحفل الأول للفرقة السيمفونية، انتقد صحفي (فضائحي) في مقالة صفراء إطلاق صفة الوطنية على الفرقة ذلك أنها، حسب زعمه، مؤلفة في أغلبيتها من العازفين الروس. ترفّع صلحي الوادي عن الدخول في سجال رخيص مع صحفي لا يحظى بأدنى قدرٍ من الاحترام، وبدلاً من ذلك توجه إلى الجمهور في بداية الحفل التالي للفرقة ليقول إن بعض العازفين فيها هم من الأساتذة الروس الذين يدرّسون في المعهد العالي للموسيقا، وإن طلاب كل واحد منهم يجلسون في الفرقة بجوار أستاذهم، لا كعازفين في الفرقة فحسب، وإنما أيضاً كجزء من العملية التعليمية، ثم طلب من الأساتذة الروس الوقوف ليراهم الجمهور فلم يزد عددهم عن أربعة عشر خبيراً من أصل إجمالي أعضاء الفرقة البالغ عددهم خمسة وثمانين أستاذاً وطالباً.
في تلك اللحظة استدار أحد الحضور نحو الزميل أسعد عبود قائلاً: إن هذا الفعل قد كشف لذلك الصحفي زيف ما كتبه، فأجابه: إن من يكذب ويلفق يعرف الحقيقة، ولن يغير فيه شيئاً انكشاف كذبه.
بعد عامين من تأسيسها قدمت الفرقة السيمفونية الوطنية بالتعاون مع المركز الثقافي البريطاني أوبرا (دايدو وإينياس)، في دمشق وبصرى وتدمر، بمشاركة طلاب المعهدين العاليين للمسرح والموسيقا، وعدد من الكفاءات الفنية السورية، من بينهم مصمم الديكور نعمان جود، وفي الحفل الأول لأول أوبرا تُقدم في سورية، على خشبة قصر الأمويين أيضاً، قلدت الدكتورة نجاح العطار صلحي الوادي وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الأولى الذي منحه إياه السيد الرئيس حافظ الأسد كأعلى تقدير يناله موسيقي، وقد رأى فيه صلحي الوادي اعترافا مجتمعياً بأهمية العمل الموسيقي.
استمر عمل صلحي الوادي مع الفرقة محققاً الكثير من الحفلات الناجحة في سورية وخارجها حتى مساء السادس والعشرين من شهر نيسان عام ألفين واثنين، حين فاجأته أزمة دماغية وهو يقود الفرقة ليسقط على خشبة المسرح كما يحلم المبدعون الكبار. وبدا أن الحلم القديم قد انهار مع غياب صاحبه.
غير أن الفرقة في واقع الحال كانت قد أصبحت مؤسسة راسخة، وسرعان ما تصدى عازف الكمان الأول فيها (رعد خلف) لمهمة الحفاظ على مسيرتها، فأقام ورشة عمل للفرقة في المعهد العالي للموسيقا، ثم قاد الفرقة في حفلين ناجحين في قصر العظم ومسرح معرض دمشق الدولي، ومن ثم سلمها إلى (المايسترو) الشاب (ميساك باغبودريان)، خريج الدفعة الأولى من طلابه في المعهد العالي، وليتفرغ هو لمشروعه الإبداعي الشخصي، دون أن ينقطع عن المعهد، ولا عن التواصل مع الفرقة السيمفونية.
نجح ميساك باغبودريان أن يتابع مسيرة الفرقة بكفاءة واقتدار، وأن يقودها في عدد كبير من الحفلات الناجحة كان من أهمها حفل افتتاح دار الأوبرا في أيار عام 2004، واحتفالية (تدمر بوابة الشمس) إثر تحرير المدينة التاريخية، وصولاً إلى حفل العيد الفضي للفرقة، والذي سبقه تكريم عدد من الموسيقيين الذين كانت لهم مساهمات هامة في مسيرة الفرقة.
بعد ثلاثين سنة من مسيرتها الناجحة تؤكد الفرقة السيمفونية الوطنية السورية أن مهمة العمل الموسيقي الراقي هو الارتقاء بذائقة الجمهور، لا الانسياق وراء ما هو رائج بحجة الاستجابة لرغبة الجمهور.
سعد القاسم
30/1/2023 جريدة الثورة
*الصورة غلاف المتيّب الافتتاحي للفرقة نشرته مؤخراً
**تابعوا صفحة الفرقة الوطنية من التعليق الأول
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق