‏إظهار الرسائل ذات التسميات #برا_جوا. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات #برا_جوا. إظهار كافة الرسائل

عن التحرّك والسفر داخل سورية.. الصعوبة والتكاليف الكثيرة





 عن التحرّك والسفر داخل سورية.. الصعوبة والتكاليف الكثيرة، دوّن صلاح موصللي

قضيت في الفترة الماضية وقتاً طويلاً على طريق السفر، فبحكم طبيعة عملي أسافر على الأقل مرتين شهرياً، ومع السفر الشخصي قمت بحوالي 15 رحلة وبمعدل شبه أسبوعي منذ بداية الصيف. تراوحت هذه الرحلات ما بين ساعات وأيام، وسافرت خلالها عبر طرق مختلفة، برية وبحرية وجوية.
وعلى الرغم من أني من محبي السفر، إلا أن قضاء الوقت على الطريق والحاجة للاستيقاظ بشكل مبكر جداً هي من الأمور المزعجة لي، فضلاً عن أن السفر بغرض العمل غالباً ما يكون مستعجلاً وغير ممتع بالضرورة. إلا أن ما يخفف من الأمر هو سهولة السفر.
تتعدد وسائل المواصلات هنا حيث أعيش وتتفاوت بخدماتها وأسعارها، ما يوفر كماً كبيراًِ من الخيارات أمام المسافرين. القطار مثلاً، يوفر راحة أعلى وتواتر عالي في الرحلات، أما الحافلات فهي خيار أكثر اقتصادية، والطيران يوفر حلاً سريعاً، مقابل الرحلات البحرية التي تساعد في الوصول لأماكن يصعب الوصول إليها بطرق أخرى. المغزى أن الخيارات متاحة ومتعددة، والأهم أنها متاحة للأفراد بسهولة: ضمن مسافة 2 كم عن مكان سكني، أي حوالي 30 دقيقة سيراً على الأقدام، يوجد 6 محطات للقطار تمر عبرها جميع الرحلات المتوجهة من وإلى المدينة.
محطة حافلات السفر الرئيسية، تبعد عني حوالي 25 دقيقة مشياً، وتقع بجانب عقدة المواصلات الأكبر للنقل الداخلي في المدينة. أما المطار، وهو أبعد، فيمكنني الوصول إليه عبر القطار أو الترام أو الباص الدخلي برحلة لا تتطلب مني مغادرة المنزل قبل أكثر من 45 دقيقة.
المصطلح المناسب لوصف ما سبق هو مصطلح ال accessibility ، وهو مصطلح يترجم حرفياً بإمكانية الوصول، ولكن لا أعتقد أن هذه الترجمة تحمل المعنى بشكل كامل. يتم تعريف ال accessibility على أنها توفير المعلومات والموارد وتصميم البيئة والأنظمة بشكل يتيح للمستخدمين الوصول إليها واستعمالها بشكل أكبر وبسهولة أعلى. ويتم استخدام هذا المصطلح للإشارة إلى أنشطة ومعايير محددة تختلف من مجال لآخر. ما يهمنا هنا، هو سهولة وإمكانية الوصول لمحطات السفر، على تنوعها، ومدى تحقق ذلك في بلادنا.
تقع معظم المحطات الرئيسية للسفر في سوريا خارج المدن أو على أطرافها. في حلب مثلاً، تبعد كراجات الراموسة حوالي 5 كم عن مركز المدينة، وتتصل بعدد محدود من خطوط النقل العام، ما يفرض على الكثير من المسافرين اللجوء لسيارات التاكسي والتي غالباً ما تفرض أسعاراً مرتفعة جداً بحكم احتكارها للخدمات. في دمشق أيضاً، تقع كراجات البولمان على أوتوستراد حرستا وتبعد أكثر من 5 كم عن مركز المدينة، ما يضع المسافرين في ظروف مشابهة.
يضاف إلى هذه المسافة الواقع الخدمي لهذه المناطق، فكونها طرفية بالنسبة لمراكز المدن يجعل من الصعب الوصول إليها مشياً حتى بالنسبة للمسافرين من أماكن قريبة، خصوصاً أن الكثير منها يقع بجانب مناطق تعرضت للدمار بشكل كبير ولا تزال غير مأهولة. بظل ما سبق، غالباً ما ينفق المسافرون على وصولهم إلى محطة الانطلاق وعودتهم منها مبلغاً مقارباً لما ينفقونه على السفر نفسه، هذا بجانب الوقت المطلوب للوصول، وأي تكاليف إضافية في حال الرغبة بشراء عبوة ماء أو أي طعام خفيف تباع بأسعار سياحية بحكم الاحتكار مرة أخرى، وليس الجودة.
من المؤكد أن قطاع النقل، خصوصاً بين المدن وعبر الحدود، يواجه تحدّيات كثيرة في سوريا. بجانب التحديات الأمنية والعسكرية، هناك محدودية عدد الوجهات التي يمكن الوصول إليها بشكل مباشر، ما يتطلب رحلات متعددة للوصول إلى الوجهات المطلوبة، كما يوجد نقص في وسائل النقل وغياب الاستقرار في توافر الوقود.
مع التحديات السابقة، تمثل إمكانية الوصول تحدياً آخر يعاني منه معظم المسافرين بشكل مباشر. وعلى الرغم من أن معظم هذه التحديات هي وليدة الأزمة أو تفاقمت خلالها، إلا أن بعضها، كمواقع كراجات السفر، هي نتيجة لتخطيط قديم يسبق الأزمة بأعوام.
المشكلة أن هذا التخطيط لم تتم مراجعته أو تطويره استجابةً لواقع البلاد، أو ربما تم ذلك، بدون أن ندري، إذ لا يبدو من المنطقي بظل الأزمة الاقتصادية في البلاد ومحدودية الوقود والكهرباء الإبقاء على محطات السفر بأماكن صعبة الوصول تتطلب المزيد من التكاليف والوقود للوصول إليها وإنارة الطرق حولها. وهذا يطرح تساؤلاً مهماً: هل تمت مناقشة إمكانية الوصول لمحطات السفر، على مستوى المجالس المحلية والإدارات المعنية، وما هي القرارت التي تم اتخاذها؟
الاحتمال الأول أن الموضوع لم يتم مناقشته ودراسته، ما يعني أنه ليس بأولوية على جداول الأعمال، وهذا يطرح تساؤلاً حول مدى أهمية هذه التحدي بالنسبة للمواطنين وأهمية تسهيل الوصول بالنسبة لهم، كما يطرح تساؤلاً حول مدى وصول هذه المشاكل لطاولات القرار. أما الاحتمال الثاني، فهو أن الموضوع قد تمت مناقشته واتخاذ قرارات حوله، وهو مؤشر إيجابي، ولكن ينقصه الشفافية في مشاركة النتائج وكيفية الوصول إليها.
قرأت مؤخراً أن أحد المجالس اتخذ قراراً بزيادة عدد باصات النقل العام التي تتجه لكراج السفر، وهو ما يعني إقراراً بالمشكلة وتوجهاً لحلها، ولكنهُ عدم إقرار بجذر المشكلة أو عدم توضيح أسباب عدم اتخاذ حلول أكثر استدامة.
تبرز عناوين الإدارة المحلية، اللامركزية، الشفافية، ومشاركة المواطنين بشكل متكرر لدى مناقشة أي من قضايا الشأن العام، ولا تغرد سهولة السفر خارجاً عن السرب، إنما تطرح المزيد من الأسئلة عما يمكن أن نقوم به، وعن الفجوة في التواصل والتي غالباً ما تعني أن المواطن العادي بعيد وغائب عن القرارات البسيطة التي تعني حياته اليومية. أستمع يومياً إلى عشرات المتصلين بمحطات الراديو والتلفزيون والذين يشتكون من تردي الخدمات وارتفاع الأسعار في وسائل النقل العام، ما يدفع المسؤولين بمناقشة المشاكل والحلول بشكل مستمر بما يحسن من إمكانية الوصول إليها، رغم الطبيعة الرأسمالية المطلقة للنظام السياسي والإداري هنا، ورغم وجود مستويات متفاوتة من الفساد.
في المقابل، ورغم كون اقتصاد الدولة السورية قائم على مزيج من الاشتراكية ودولة الرعاية، فإن إمكانية الوصول نادراً ما تبرز في النقاش العام، والذي يعتبر أن الشاطر هو من يحصل بنفسه.
صلاح موصللي

بريد من المجلس المحلي، حق الوصول للمعلومات

يُتابع صلاح موصللي تدويناته في تصنيفنا الجديد #برّا_جوّا*عن حق الوصول للمعلومات، بريد من المجلس المجلّي
استلمتُ في بداية الشهر نسخة من مجلة life in Salford، وهي مجلة مجانية تتم طباعتها وتوزيعها بشكل ربعي وتحصل على التمويل من قبل عدة جهات محلية ومجتمعية، متضمنة جامعة المدينة والمجلس المحلي.
لا تضم المجلة مقالات نوعية وتقارير جذابة، كالتي يمكن رؤيتها في مجلات العناوين البراقة، ولكنها تضم بعض المعلومات التي تهم السكان في المنطقة، كمواعيد وتفاصيل بعض الفعاليات المحلية، وتقارير عن بعض مشاريع المجلس المحلي، إضافة لرسالة من عمدة المدينة (رئيس المجلس المحلي)، والذي كان قم تم انتخابه قبل فترة ليست ببعيدة، وهو يوضح خطة عمل المجلس خلال الفترة القادمة.
يعتبر المجلس المحلي وصولي لهذه المعلومات وقدرتي على التواصل مع المجلس جزئاً من دور المجلس ومصدراً لشرعيته على الأرض، وذلك بوصفي مقيماً في نطاق دائرة المجلس الانتخابية رغم أني لست مشاركاً بانتخاب المجلس على المستوى الشخصي، ويأخذ هذا التواصل أشكالاً متعددة لا تقتصر على فترة الانتخابات. فالمجلس يخضع للمساءلة المحلية بشكل مستمر، ومن حق السكان معرفة مايقوم به أعضاء المجلس، وكيف يتم صرف الموازنة المحلية الممولة من الضرائب (سأتحدث عن هذا الجانب بشكل مفصل في مقال لاحق).
في هذا السياق، لا أحتاج لأن أكون عالماً بالغيب لأتوقع ما يدور بذهن القراء حالياً. في فترة تتحضر فيها البلاد لانتخابات مجلس الشعب، لا بد أن الكثيرين قد بدؤوا بتحليل ومقارنة سلوك الأعضاء المرشحين للانتخابات، وأولئك المنتخبين عن دورات سابقة سواءً كأعضاء لمجلس الشعب أو للمجالس المحلية في المدن السورية. كما لا أحتاج لأن أكون منجماً لأدرك أن الكثيرين يفكرون حالياً بأنهم لا يعرفون بالتحديد من هم هؤلاء، وما اسم أعضاء المجلس المحلي المنتخبين في منطقتهم والممثلين لهم.
في الواقع، فإن انعدام التواصل بين المنتَخبين (بنصب الخاء) والمنتخِبين (بجرها) ليس بالحالة الجديدة، إذ أن انعدام الثقة وانكفاء العموم عن الحياة السياسية والشأن العام قد طبعا واقع المجتمع السوري لعدة عقود لأسباب متعددة، وأصبحت هذه الظاهرة أمراً اعتيادياً في المجتمع.
تتحضر بريطانيا أيضاً لانتخابات لمجلس العموم في الأسبوع القادم، وفيما تمتلئ اللوحات الإعلانية في الطرق السورية بصور وألقاب المرشحين، تمتلئ هنا صناديق البريد ببرامج المرشحين السياسية، ويترافق ذلك مع مناظرات سياسية متلفزة، ولقاءات في الجامعات مع ممثلي الأحزاب المشاركة في الانتخابات، إضافة لحملات انتخابية محلية يلتقي فيها المرشحون مع السكان لمناقشة برامجهم السياسية وموقفهم من قضايا معينة.
من المهم التنويه بأن ما سبق لا يمثل تجربة سياسية مثالية أو حالة من الديمقراطية المطلقة، إذ لا تخلو العملية السياسية من الفضائح والانتهاكات والخطابات الشعبوية، إلا أن دور الإعلام والقضاء كبير في فضح هذه الحالات ومحاسبتها، وهو ما يضع المواطن في المقعد الأول في العملية السياسية، ويفرض على السياسيين المشاركة في السباق للحصول على رضا هذا المواطن.
مع بداية الأحداث الأخيرة في غزة العام الماضي، أرسلت خطاباً إلى عضو مجلس العموم الممثل عن منطقتي، للمطالبة باتخاذ موقف رسمي من قبل الدولة البريطانية. خلال ثلاثة أيام، تلقيت رداً شخصياً منها، توضح موقفها من الأحداث، وما قمت به من محاولات للضغط على الحكومة، إضافة لمداخلتها في مجلس العموم والتي طالبت فيها بفرض وقف لإطلاق النار وغيرها من الإجراءات.
متى كانت أخر مرة خاطبتم بها عضو مجلس الشعب أو المجلس المحلي عن منطقتكم؟ وهل حصلتم على جواب؟ شاركونا
Salah Moussalli - صلاح موصللي
#برّا_جوّا هي سلسلة تدوينات تستعرض تجارب معيشية خارج سوريا، وتقارن القيم المجتمعية وسلوك الأفراد بهدف توليد نقاشات دافعة للتحليل والتغيير. لا تفترض هذه التدوينات تفوق الآخر، ولا تتجاهل الظروف التاريخية والسياسية التي تقف وراء تطور القيم المجتمعية، ولكنها تنظر للتجارب المختلفة على أنها نماذج تستحق المراقبة والنقاش.

 

عن ثقافة احترام الدور والصف، لماذا تغيب عندنا؟


 يدوّن صلاح موصللي في افتتاح تصنيفنا الجديد #برّا_جوّا*

عن ثقافة احترام الدور والصف، لماذا تغيب عندنا؟
طالما كان الانتظار بالنسبة لي من أكثر الأمور إثارةً للضجر والتوتر. فالانتظار يقتضي التسليم بأن الأمور أصبحت خارج سيطرتك، وبأن القرار الآن محكوم بالوقت. الدور، أو الصف، أو الطابور، هو أحد أشكال هذا الانتظار. أن يأتي دورك يعني انتهاء من هم أمامك في الدور من مهامهم، وقمة الضجر الوقوف في هذا الدور بلا قدرة على دفعه للأمام أو تحريكه بأسرع مما هو عليه. أو ربما هكذا نشأنا.
يصطدم المسافر إلى بريطانيا بفجوة ثقافية ضخمة في ما يتعلق بالدور. هنا الانتظار ليس مشكلة، والناس لا تقف بالدور فقط من باب الاحترام، بل وينظرون إلى هذا على أنه الأمر الطبيعي، ولا يتسبب لهم بالتوتر أو ارتفاع الضغط، رغم أن الدور هنا مختلف بشكل كبير عما اعتدناه في بلدنا، ويدخل في تفاصيل الحياة اليومية.
بالفعل، طبيعة العمل هنا تعني أن الجميع يذهبون للتسوق أو لإجراء معاملة أو الحصول على قهوة في ذات الوقت، ويترافق هذا مع تكلفة عمالة مرتفعة تعني أن معظم المتاجر والمقاهي لا تضم إلا شخص واحد لتقديم الخدمة والمحاسبة. يترافق هذا مع شروط عمل جيدة نسبياً تجعل العاملين غير مضطرين للضغط على أنفسهم والتحرك بسرعة.
كل ما سبق يعني أن الانتظار سيد الموقف في كل مكان. الحصول على فنجان قهوة (عالماشي) أو مجرد طلبه قد يتطلب انتظار لمدة ١٠ دقائق، بينما يمكنك توقع ١٥ دقيقة من الانتظار لكي تتمكن من إنهاء عملية التسوق والدفع، أما الجلوس في مطعم أو مقهى فيأخذ أحياناً أكثر من نصف ساعة من الانتظار في دور تحت المطر.
رغم ذلك، لم أرَ خلال فترة تواجدي هنا أي مجادلة أو تذمر حول موضوع الدور. يصطف المواطنين بأشكالهم، أصحاب الأعمال والأطفال والعجزة والطلاب، في الدور بشكل طبيعي، وغالباً ما يستغلون الوقت في التواصل أو القراءة أو السماع للموسيقا، وذلك على الرغم من سرعة الحياة في هذه البلاد ومحدودية الوقت.
لن أنكر أني واجهت تحدياً في التعلم على ثقافة الدور هذه، فاحترام الدور شيء والاضطرار لإضاعة ساعة من يوم العطلة في الدور بين مكان وآخر شيء آخر، ولكن مع الوقت أصبح الأمر تلقائياً ولم أعد أشعر بنفس التوتر والتذمر من الدور، إلا عند العودة إلى سوريا.
في زيارتي الأخيرة، مررت بمحل لبيع الفطائر، ولم يكن هناك إلا رجل كبير في العمر يقوم بالطلب. وقفت وراءه لكي ينتهي، وعندما أخذ طلبه ومشى، تقدمتُ للأمام، لتقوم شابة في العشرينات من العمر بالطلب بصوت عالي. كانت واقفة مع عدد من الشابات بعمرها وعدد من الأطفال، ولم يكن أياً منهم واقفاً في أي دور. بدأ صاحب المحل بخدمتهم، بدون أن ينظر أو يفكر بمن كان هنا أولاً، ولم تقم هي أو أياً ممن كان معها بالاعتذار، فما قاموا به هو العرف المقبول والسائد اجتماعياً، وهو النموذج المقدم للأطفال. تكرر الموقف في أماكن عديدة، وذكرني بالمرة التي لم ينتبه فيها أحد العاملين في المقهى في بريطانيا إلى وقوفي بالدور، وسأل الرجل الواقف خلفي عما يرغب به، ليجيبه الرجل بأن الدور دوري وليس دوره.
يمكن لنا تقديم الكثير من الأسباب حول واقع ثقافة الدور في بلادنا. عدم الثقة بأن 'الدور رح يمشي'، ثقافة الدفع للحصول على دور، ومفاهيم مجتمعية تعتبر 'السلبية والعنترية' نماذج للقوة والاستحقاق. كما أن الواقع الحالي جعل من تجربة الدور تجربة خاسرة في كثير من السياقات، كانتظار السرفيس أو دور الخبز، حيث أن ندرة العرض مقابل الطلب تجعل من معادلة الانتظار والدور معادلة مستحيلة. بذات الوقت، لا تبرر هذه الأسباب سلوك الأفراد بشكل مطلق، إذ أن احترام الآخرين (ووقتهم) هو قرار شخصي في حالات كثيرة، وانتظار من يقف في الأمام ليدفع عند بائع الخضرة لا يرتبط بثقافة المحسوبية.
ترتبط الثقافة العامة في البلد بالأعراف والتقاليد، وتفرض هذه الثقافة سلوكاً محدداً على الشعب، ولكن في الوقت نفسه، فإن هذه الأعراف والتقاليد والثقافة هي نتيجة لسلوك الأفراد، ويبدأ تغيير الثقافة بتغير هذا السلوك. من المؤكد وجود دور لكل من السياسات والحوافز في تغيير السلوك، ولكن حتى هذه السياسات والحوافز لا بد لها من دافع اجتماعي ومحركات فردية.
ما هي تجاربكم مع الدور في سوريا؟ هل هناك تجارب إيجابية أو محاولات لتغيير حققت النجاح؟ شاركونا
Salah Moussalli - صلاح موصللي
#برّا_جوّا هي سلسلة تدوينات تستعرض تجارب معيشية خارج سوريا، وتقارن القيم المجتمعية وسلوك الأفراد بهدف توليد نقاشات دافعة للتحليل والتغيير. لا تفترض هذه التدوينات تفوق الآخر، ولا تتجاهل الظروف التاريخية والسياسية التي تقف وراء تطور القيم المجتمعية، ولكنها تنظر للتجارب المختلفة على أنها نماذج تستحق المراقبة والنقاش.

شاركنا ضياء البصير تدوينة عن تجربته: ما الذي يعنيه أن تكون سورياً في مصر؟


 شاركنا ضياء البصير تدوينة عن تجربته:

ما الذي يعنيه أن تكون سورياً في مصر؟
قد نكون ك 'سوريين' أكثر شعوب العالم تآلفاً مع فكرة السفر، حتّى أنّ السفر لم يَعد نقاشاً، وجهة السفر فقط كذلك، يُقال بأنّ شتاتنا لا يُقارن بشتات الآخرين من الدول صَعبة المَعيشة، ويُقال بأن شتاتنا الإجمالي قد وصل إلى 200 وجهة في العالم.
من كُل هذه الوجهات أناقشُ حيّزي:
ما الذي يعنيه أن تكون سورياً في مصر؟.
لقد هاجرتُ إلى الجمهوريّة المصريّة قبل رأس السنة بالضبط، وهذا يعني بأنني قد أتممت شهري العاشر هُنا، وبهذه الشهور ومنها أريدنا أن نعتبر كُل كلامي: زاوية خاصّة فيّ لرؤية الأمر، زاوية قد أختلف بها مع مُهاجِر آخر من أهلي هُنا وقد أتفق.
ولكي أُسهّل عليكم قراءة الأمر أحبُّ أن افترض أسئلةً قد تسألوها، ثُم أُجيب عليها، أُجيب أخوتي الذين قدّ ضاقت عليهم الدِيار وصار موعدُ اختيار الوجهة، وقرروا اختيار موقع قريب من بلادهم، ليس إلّا حّبّاً ربما بما قد خلى من الأيّام..
هل يُعامِلنا المصريّ مُعاملةً لائقة حقاً؟
هذا السؤال أحبُّ أن أقسمه إلى نصفين، شعبياً: 'سأقول عبارة ربما قد تبدو رومانسية لكنّها حقيقة أكيدة، وحدة ١٩٥٨ لم تتآكل بمعظم أجزائها، لم تُفتّت، لقد لمستُ هُنا حناناً من لدُنهِم.. فالسوري مُرحّبٌ به أينما حلّ في أرضهم الكَبيرة، هذه الصحراء فَتَحتْ يدها للجميع وجادتْ بموجوداتها، السوري عندهم لا يُهان، لا يُذلّ ولا يُميَّز فقيراً، ولا يُنبَذ غنيّاً، قريبٌ إليهم حلبي وشامي وأدلبي.. إلخ. وهذا عندي، على الأقل عندي، كُل شيء، كنت أبحثُ منذُ البداية عن أرض أهلها بقلوب وسيعة... خفت أن تَصيرَ مُعضلتي بثيمة فلسطينيّة: المفتاح والأبواب.
هل هذا الترحيب هو طبع مصري لا يختصّ بالسوري وحده؟
يُقال أنّ المصري هذا العاديّ عنده والطبيعي وأنّهُ يعامل الجميع بما يُعامل السوري، أي أنّهُ لا يختصّهُ بشيء، وهذا كلام غير صحيح! لا ألمس للحقيقة هذا الترحاب مع السودانيين ولا الفلسطينيين وربما حتى مع أهلنا المغاربة ومع أهلنا في الخليج.. (وهنا لا أقول بشكل بدهي أنّهم عنصريين مع من ذكرت، على العَكس، 'لكن بكل تأكيد لا يهتمّون بأمر الجميع كما يهتمّون بأمرنا).
أمّا حكومياً.. فالأمر يُلخّص بعبارة واحدة: (نُعامل مُعاملة المصري) لا تظن بأنّ هذا بمنتهى الجمال، لإن هذا المكان ليس عالي الجودة، لا من الناحية الخدمية ولا من الناحية القانونية، لذلك عليك حرفياً أن تواجه معظم ما يواجهه المصريّ بحلوه ومرّه.
ماذا عن استصدار وتجديد الإقامة، هل الأمر صعب؟
أغلب الناس هُنا إمّا إقامة دراسيّة وهذه لمدّة سنة أو سياحية ربما بأغلبية ساحقة وهذه تستمر ل ست أشهر فقط، تحتاج يوم للطلب ويومين للاستلام، وتُكلّف فقط ٦٠٠ جنيه تقريباً، أي ما يساوي ٢٥$ لا غير، يُطلب منك لتحصيلها:
- عقد إيجار موثّق بالشهر العقاري
- فاتورة كهرباء أخيرة
- صور شخصيّة
- تصوير جواز السفر والعقد (٣ صور)
- لقاح الكورونا عند البوابة الخارجية.
هل يمكنني العمل بموجب الإقامة؟ (السياحية طبعاً).
لا، لا يمكنك قانونياً ولكن بحسب ما أرى فإنّ المصريّ يتجاوز ذلك وربما فقط مع السوريّ، أعرفُ كثيراً من الأصدقاء يعملون بشركات مصريّة والأمور جيدة.
ما هي الأمور المُزعجة حقاً بالقاهرة؟
أنا من دمشق والهدوء في الحواري عندي سمة طَبَعتْ الماضي ربما كلّه، فلا يكاد طفل أن يركض في شارعنا حتى يُقال لهُ ألف مرة أو بألف طريقة: يلا على البيت عمّو - أمّا في القاهرة فالزُحام وعديله الضجيج سمة من سمات المحافظة، شيء لا يُمكنك السيطرة عليه، هي أرضٌ لا تنام، تغلي بالحياة، تغصُّ بالبشر إلى الدرجة التي تولّد، تولّد إحساساً قد يُصيبك بأنّك مجرّد رقم ليس إلّا.
هُناك بعضُ الصعوبة في التواصل أيضاً، فأنت تفهمهم ولكن هم في كثير من الأحيان لا يفهمون مفرداتك، وهُنا عندي حادثة طريفة قد تذكرتها الآن: عملت في معرض القاهرة للكتاب في 'دار نشر' وأثناء ذلك قالت مشرفة الجناح يومها حين انتهى دوام المعرض للحارس الأمني كنوع من المُزاح: قلعونا - حينها اعتبر الحارس الأمني ولإنه مصريّ الهوية الكلمة صادمة وصار ينظر إلينا حتى استوعبنا الأمر أخيراً بأنّ كلمة قلعونا في المصريّة تعني: خلعوا ملابسنا. فاعتذرنا، وضحكنا وضحِك وقلعنا (بمعناها السوري).
صعوبات الأكل، كيف نأكل وماذا نأكل؟
هذا تحدّي أغلبيّتنا، فلا زعتر حلبي ولا جبنة حمويّة ولا فستق من أدلب ولا نابلسيّة من الشام ولا مكدوس لاذقاني، ولا حتى متة، قد تجد هذه المأكولات في أماكن تجمّع السوريين (ستة أكتوبر/العبور وربما مدينتي) وبأسعار أعلى من اللازم.
هُناك شائعة غليظة مفادُها بأنّ الأكل المصري سيء الطعمة ولأقول الحقّ، كدت أن أُصدّقها، لكنّي تنبّهتُ أخيراً بأنّهُ ذوقٌ آخر بالمشارب والمآكل لا يُشبهنا (عدم محبّتي للبهارات لا يجعلني ألغي جودة كل أكل الهند) ثُم علينا أن نضع في الموازين اعتبارات الطقس لإن هذا يؤثّر أيضاً في المسألة. طبعاً عليّ ان أؤشّر على نجاح المأكولات السوريّة هُنا بشكل غريب وملفت، لها رواج غير طبيعي، خاصّة بالشاورما وهذا مُتوقّع طبعاً.
ماذا عن الوضع الصحّي؟
نُشكّل كسوريين بحسب منظمة الهجرة الدولية: '١٧%' من أصل كل المهاجرين الدوليين الذين وصلوا إلى مصر، أي ١.٥ مليون سوري، لا أعرف ما أقول هُنا، هذا رقم ثقيل على البَلدين... كم هو ثقيلٌ حتى على سمعي وقلبي. ومع هذا ما زالت مصر ملتزمة بتقديم برامجها للجميع، لمن يدفع طبعاً لكن دون أي تمييز، تساوي في كل شيء، لا أنكر طبعاً أنني راضي بأن التطعيم مجاني وبطريقة سهلة جداً.
أخيراً، ما الذي قد تقوله من تجربتك يا ضياء؟
لم أندم على اختياري "للقاهرة" ولكن ندمت على السفر من دمشق،
بصراحة يبدو أنّ الشعور الوحيد الذي يُخيّمُ عليّ ليل نهار هو الندم فقط، ظلمتُ دمشق كثيراً، قد تكون دمشق كما قال الماغوط مرّات عديدة: "ليست مثل بيروت، دمشق تأخذ ولا تُعطي" قد تكون فعلاً كذلك، ولكن أمّي هُناك، أهلي هُناك، مطارحي هُناك، ذاكرتي هُناك، فلا تسأل عن تجربتي هُنا، ما الذي لي هُنا؟ إلّا بعضٌ قليلٌ من أنا؟..
أسأل يومياً متى نرتاح؟
للصراحة لا أعرف، لإنني ومن سماعي لأحاديث السوريين بالقاهرة ألمسُ فيهم أنّهم ما زالوا يبحثون عن أمرٍ لم يجدوه، أسمع منهم ما قالهُ درويش مرّةً: "نُريد ما بعد المحطّة" أسمع وأخاف..
ضياء البصير
@diaa albasser
*الصورة من أغلفة ألغاز المغامرين الخمسة، القاسم المشترك الأكبر بين السوريين ومصر، هل تذكرونهم؟