عن التحرّك والسفر داخل سورية.. الصعوبة والتكاليف الكثيرة، دوّن صلاح موصللي
قضيت في الفترة الماضية وقتاً طويلاً على طريق السفر، فبحكم طبيعة عملي أسافر على الأقل مرتين شهرياً، ومع السفر الشخصي قمت بحوالي 15 رحلة وبمعدل شبه أسبوعي منذ بداية الصيف. تراوحت هذه الرحلات ما بين ساعات وأيام، وسافرت خلالها عبر طرق مختلفة، برية وبحرية وجوية.
تتعدد وسائل المواصلات هنا حيث أعيش وتتفاوت بخدماتها وأسعارها، ما يوفر كماً كبيراًِ من الخيارات أمام المسافرين. القطار مثلاً، يوفر راحة أعلى وتواتر عالي في الرحلات، أما الحافلات فهي خيار أكثر اقتصادية، والطيران يوفر حلاً سريعاً، مقابل الرحلات البحرية التي تساعد في الوصول لأماكن يصعب الوصول إليها بطرق أخرى. المغزى أن الخيارات متاحة ومتعددة، والأهم أنها متاحة للأفراد بسهولة: ضمن مسافة 2 كم عن مكان سكني، أي حوالي 30 دقيقة سيراً على الأقدام، يوجد 6 محطات للقطار تمر عبرها جميع الرحلات المتوجهة من وإلى المدينة.
محطة حافلات السفر الرئيسية، تبعد عني حوالي 25 دقيقة مشياً، وتقع بجانب عقدة المواصلات الأكبر للنقل الداخلي في المدينة. أما المطار، وهو أبعد، فيمكنني الوصول إليه عبر القطار أو الترام أو الباص الدخلي برحلة لا تتطلب مني مغادرة المنزل قبل أكثر من 45 دقيقة.
المصطلح المناسب لوصف ما سبق هو مصطلح ال accessibility ، وهو مصطلح يترجم حرفياً بإمكانية الوصول، ولكن لا أعتقد أن هذه الترجمة تحمل المعنى بشكل كامل. يتم تعريف ال accessibility على أنها توفير المعلومات والموارد وتصميم البيئة والأنظمة بشكل يتيح للمستخدمين الوصول إليها واستعمالها بشكل أكبر وبسهولة أعلى. ويتم استخدام هذا المصطلح للإشارة إلى أنشطة ومعايير محددة تختلف من مجال لآخر. ما يهمنا هنا، هو سهولة وإمكانية الوصول لمحطات السفر، على تنوعها، ومدى تحقق ذلك في بلادنا.
تقع معظم المحطات الرئيسية للسفر في سوريا خارج المدن أو على أطرافها. في حلب مثلاً، تبعد كراجات الراموسة حوالي 5 كم عن مركز المدينة، وتتصل بعدد محدود من خطوط النقل العام، ما يفرض على الكثير من المسافرين اللجوء لسيارات التاكسي والتي غالباً ما تفرض أسعاراً مرتفعة جداً بحكم احتكارها للخدمات. في دمشق أيضاً، تقع كراجات البولمان على أوتوستراد حرستا وتبعد أكثر من 5 كم عن مركز المدينة، ما يضع المسافرين في ظروف مشابهة.
يضاف إلى هذه المسافة الواقع الخدمي لهذه المناطق، فكونها طرفية بالنسبة لمراكز المدن يجعل من الصعب الوصول إليها مشياً حتى بالنسبة للمسافرين من أماكن قريبة، خصوصاً أن الكثير منها يقع بجانب مناطق تعرضت للدمار بشكل كبير ولا تزال غير مأهولة. بظل ما سبق، غالباً ما ينفق المسافرون على وصولهم إلى محطة الانطلاق وعودتهم منها مبلغاً مقارباً لما ينفقونه على السفر نفسه، هذا بجانب الوقت المطلوب للوصول، وأي تكاليف إضافية في حال الرغبة بشراء عبوة ماء أو أي طعام خفيف تباع بأسعار سياحية بحكم الاحتكار مرة أخرى، وليس الجودة.
من المؤكد أن قطاع النقل، خصوصاً بين المدن وعبر الحدود، يواجه تحدّيات كثيرة في سوريا. بجانب التحديات الأمنية والعسكرية، هناك محدودية عدد الوجهات التي يمكن الوصول إليها بشكل مباشر، ما يتطلب رحلات متعددة للوصول إلى الوجهات المطلوبة، كما يوجد نقص في وسائل النقل وغياب الاستقرار في توافر الوقود.
مع التحديات السابقة، تمثل إمكانية الوصول تحدياً آخر يعاني منه معظم المسافرين بشكل مباشر. وعلى الرغم من أن معظم هذه التحديات هي وليدة الأزمة أو تفاقمت خلالها، إلا أن بعضها، كمواقع كراجات السفر، هي نتيجة لتخطيط قديم يسبق الأزمة بأعوام.
المشكلة أن هذا التخطيط لم تتم مراجعته أو تطويره استجابةً لواقع البلاد، أو ربما تم ذلك، بدون أن ندري، إذ لا يبدو من المنطقي بظل الأزمة الاقتصادية في البلاد ومحدودية الوقود والكهرباء الإبقاء على محطات السفر بأماكن صعبة الوصول تتطلب المزيد من التكاليف والوقود للوصول إليها وإنارة الطرق حولها. وهذا يطرح تساؤلاً مهماً: هل تمت مناقشة إمكانية الوصول لمحطات السفر، على مستوى المجالس المحلية والإدارات المعنية، وما هي القرارت التي تم اتخاذها؟
الاحتمال الأول أن الموضوع لم يتم مناقشته ودراسته، ما يعني أنه ليس بأولوية على جداول الأعمال، وهذا يطرح تساؤلاً حول مدى أهمية هذه التحدي بالنسبة للمواطنين وأهمية تسهيل الوصول بالنسبة لهم، كما يطرح تساؤلاً حول مدى وصول هذه المشاكل لطاولات القرار. أما الاحتمال الثاني، فهو أن الموضوع قد تمت مناقشته واتخاذ قرارات حوله، وهو مؤشر إيجابي، ولكن ينقصه الشفافية في مشاركة النتائج وكيفية الوصول إليها.
قرأت مؤخراً أن أحد المجالس اتخذ قراراً بزيادة عدد باصات النقل العام التي تتجه لكراج السفر، وهو ما يعني إقراراً بالمشكلة وتوجهاً لحلها، ولكنهُ عدم إقرار بجذر المشكلة أو عدم توضيح أسباب عدم اتخاذ حلول أكثر استدامة.
تبرز عناوين الإدارة المحلية، اللامركزية، الشفافية، ومشاركة المواطنين بشكل متكرر لدى مناقشة أي من قضايا الشأن العام، ولا تغرد سهولة السفر خارجاً عن السرب، إنما تطرح المزيد من الأسئلة عما يمكن أن نقوم به، وعن الفجوة في التواصل والتي غالباً ما تعني أن المواطن العادي بعيد وغائب عن القرارات البسيطة التي تعني حياته اليومية. أستمع يومياً إلى عشرات المتصلين بمحطات الراديو والتلفزيون والذين يشتكون من تردي الخدمات وارتفاع الأسعار في وسائل النقل العام، ما يدفع المسؤولين بمناقشة المشاكل والحلول بشكل مستمر بما يحسن من إمكانية الوصول إليها، رغم الطبيعة الرأسمالية المطلقة للنظام السياسي والإداري هنا، ورغم وجود مستويات متفاوتة من الفساد.
في المقابل، ورغم كون اقتصاد الدولة السورية قائم على مزيج من الاشتراكية ودولة الرعاية، فإن إمكانية الوصول نادراً ما تبرز في النقاش العام، والذي يعتبر أن الشاطر هو من يحصل بنفسه.
صلاح موصللي