يدوّن صلاح موصللي في افتتاح تصنيفنا الجديد #برّا_جوّا*
عن ثقافة احترام الدور والصف، لماذا تغيب عندنا؟
طالما كان الانتظار بالنسبة لي من أكثر الأمور إثارةً للضجر والتوتر. فالانتظار يقتضي التسليم بأن الأمور أصبحت خارج سيطرتك، وبأن القرار الآن محكوم بالوقت. الدور، أو الصف، أو الطابور، هو أحد أشكال هذا الانتظار. أن يأتي دورك يعني انتهاء من هم أمامك في الدور من مهامهم، وقمة الضجر الوقوف في هذا الدور بلا قدرة على دفعه للأمام أو تحريكه بأسرع مما هو عليه. أو ربما هكذا نشأنا.
بالفعل، طبيعة العمل هنا تعني أن الجميع يذهبون للتسوق أو لإجراء معاملة أو الحصول على قهوة في ذات الوقت، ويترافق هذا مع تكلفة عمالة مرتفعة تعني أن معظم المتاجر والمقاهي لا تضم إلا شخص واحد لتقديم الخدمة والمحاسبة. يترافق هذا مع شروط عمل جيدة نسبياً تجعل العاملين غير مضطرين للضغط على أنفسهم والتحرك بسرعة.
كل ما سبق يعني أن الانتظار سيد الموقف في كل مكان. الحصول على فنجان قهوة (عالماشي) أو مجرد طلبه قد يتطلب انتظار لمدة ١٠ دقائق، بينما يمكنك توقع ١٥ دقيقة من الانتظار لكي تتمكن من إنهاء عملية التسوق والدفع، أما الجلوس في مطعم أو مقهى فيأخذ أحياناً أكثر من نصف ساعة من الانتظار في دور تحت المطر.
رغم ذلك، لم أرَ خلال فترة تواجدي هنا أي مجادلة أو تذمر حول موضوع الدور. يصطف المواطنين بأشكالهم، أصحاب الأعمال والأطفال والعجزة والطلاب، في الدور بشكل طبيعي، وغالباً ما يستغلون الوقت في التواصل أو القراءة أو السماع للموسيقا، وذلك على الرغم من سرعة الحياة في هذه البلاد ومحدودية الوقت.
لن أنكر أني واجهت تحدياً في التعلم على ثقافة الدور هذه، فاحترام الدور شيء والاضطرار لإضاعة ساعة من يوم العطلة في الدور بين مكان وآخر شيء آخر، ولكن مع الوقت أصبح الأمر تلقائياً ولم أعد أشعر بنفس التوتر والتذمر من الدور، إلا عند العودة إلى سوريا.
في زيارتي الأخيرة، مررت بمحل لبيع الفطائر، ولم يكن هناك إلا رجل كبير في العمر يقوم بالطلب. وقفت وراءه لكي ينتهي، وعندما أخذ طلبه ومشى، تقدمتُ للأمام، لتقوم شابة في العشرينات من العمر بالطلب بصوت عالي. كانت واقفة مع عدد من الشابات بعمرها وعدد من الأطفال، ولم يكن أياً منهم واقفاً في أي دور. بدأ صاحب المحل بخدمتهم، بدون أن ينظر أو يفكر بمن كان هنا أولاً، ولم تقم هي أو أياً ممن كان معها بالاعتذار، فما قاموا به هو العرف المقبول والسائد اجتماعياً، وهو النموذج المقدم للأطفال. تكرر الموقف في أماكن عديدة، وذكرني بالمرة التي لم ينتبه فيها أحد العاملين في المقهى في بريطانيا إلى وقوفي بالدور، وسأل الرجل الواقف خلفي عما يرغب به، ليجيبه الرجل بأن الدور دوري وليس دوره.
يمكن لنا تقديم الكثير من الأسباب حول واقع ثقافة الدور في بلادنا. عدم الثقة بأن 'الدور رح يمشي'، ثقافة الدفع للحصول على دور، ومفاهيم مجتمعية تعتبر 'السلبية والعنترية' نماذج للقوة والاستحقاق. كما أن الواقع الحالي جعل من تجربة الدور تجربة خاسرة في كثير من السياقات، كانتظار السرفيس أو دور الخبز، حيث أن ندرة العرض مقابل الطلب تجعل من معادلة الانتظار والدور معادلة مستحيلة. بذات الوقت، لا تبرر هذه الأسباب سلوك الأفراد بشكل مطلق، إذ أن احترام الآخرين (ووقتهم) هو قرار شخصي في حالات كثيرة، وانتظار من يقف في الأمام ليدفع عند بائع الخضرة لا يرتبط بثقافة المحسوبية.
ترتبط الثقافة العامة في البلد بالأعراف والتقاليد، وتفرض هذه الثقافة سلوكاً محدداً على الشعب، ولكن في الوقت نفسه، فإن هذه الأعراف والتقاليد والثقافة هي نتيجة لسلوك الأفراد، ويبدأ تغيير الثقافة بتغير هذا السلوك. من المؤكد وجود دور لكل من السياسات والحوافز في تغيير السلوك، ولكن حتى هذه السياسات والحوافز لا بد لها من دافع اجتماعي ومحركات فردية.
ما هي تجاربكم مع الدور في سوريا؟ هل هناك تجارب إيجابية أو محاولات لتغيير حققت النجاح؟ شاركونا
Salah Moussalli - صلاح موصللي
#برّا_جوّا هي سلسلة تدوينات تستعرض تجارب معيشية خارج سوريا، وتقارن القيم المجتمعية وسلوك الأفراد بهدف توليد نقاشات دافعة للتحليل والتغيير. لا تفترض هذه التدوينات تفوق الآخر، ولا تتجاهل الظروف التاريخية والسياسية التي تقف وراء تطور القيم المجتمعية، ولكنها تنظر للتجارب المختلفة على أنها نماذج تستحق المراقبة والنقاش.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق