في سورية قل لي ماذا تشرب أقول لك من أنت!

يُتابع حسن فخوّر تدويناته ويُناقش ظواهر اجتماعيّة،
قل لي ماذا تشرب أقول لك من أنت!
كنيتُ منذ طفولتي بأبي شاي؛ ذاك أنني كنت الفرد الوحيد في العائلة الذي تربطه قصة عشقٍ مع الشاي، قصةٌ لم تنتهِ مع نهاية كأسي، بل كنتُ أحمد الله عليه، وأبسمل فوق كؤوس الحضور، حتى يجفَّ الإبريق وينضب!
يقول الكاتب الفرنسي جان سافاغان: "قل لي ماذا تأكل؛ أقول لك من أنت!" ملخصاً فكرة تنوع الثقافات الغذائية، وارتباطها بالبيئة الجغرافية والتاريخية للمكان، لكن في سوريا الأمر مختلفٌ تماماً، فالبيئات المتنوعة التي تحتضنها تخلق نوعاً مميزاً من التكامل الذي لا يخلو من النزاعات المناطقية للتراث اللا مادي لكل بيئةٍ منها، كأحقية حماه بحلاوة الجبن بدل حِمص، والمليحي في حوران بين درعا والسويداء، والكبة بين حلب ودمشق، والمقيريطة بين اللاذقية وطرطوس؛ كل تلك الخلافات شعرةٌ لا تقسم ظهر الفرس الأصيل، تحتد النقاشات فيها، وتنتهي بضحكةٍ دون حل النزاع.
المشروبات هنا شيءٌ آخر، أحزابٌ غير رسميةٍ، مشاريع تقسيمٍ جغرافيٍ وطبقيٍ وطائفيٍ، مقدساتٌ لا يمكنُ المساس بها، والخروج عنها يعني الخروج عن المألوف، فكل من يراني أترع الكاس، كاس الشاي المعتّق وأطيّبه بعودٍ من القرفة يتعجب هذا المزاج، بل وتجحظ عيناه حين يعلم أنني لا أشرب المتة؛ الجرعة المقدسة للساحل السوري، وأنا أحد حِجاله المهاجرة.
ليستْ مبالغةً أبداً إذا تجرأنا على القول بأنّ المشروبات ترتبط بالبيئة التي تتصدر قائمة اجتماعاتها؛ باختصار هناك دلائلٌ لم يتطرق لها علماء الاجتماع تفسر طبيعة العلاقة بين البيئة وكأسها الخاص، فأهل المدن غالباً يفضلون المشروبات سريعة التحضير؛ نتيجةً للنشاط الحركي المستمر وعجلة الحياة المتسارعة فيها، وعلى سبيل المهن؛ التاجر عادةً ما يميل إلى القهوة، بينما يميل أصحاب المهن إلى الشاي، فيما راحت الشركات المواكبة للتطور إلى تقديم القهوة سريعة التحضير، وذلك ضمن النطاق الزمني للعمل الذي قد يختلف في أوقات الراحة.
جغرافياً؛ تتوزع المشروبات بين عدة مناطق كسماتٍ أساسيةٍ لها، وبمزاجٍ يرتبط بطباع أهلها وطبيعة حياتهم، فالشوام الذين يميلون بحياتهم إلى الاعتدال والإدارة يشربون الشاي متوسط الحلاوة والنكهة، أما أهل الجزيرة المعروفون بالعناد والصلابة، يفضلون الشاي قرمزي اللون ذو التركيز المرتفع طعمه مر يشبه الظروف المُناخية فيها مع الكثير من السكر الذي يشبه قلوبهم الدمثة،
بينما يميل أهل حوران إلى كونهم أكثر اندماجاً وتكيفاً مع التقلبات الاجتماعية والسياسية، يشربون الشاي بتركيزٍ خفيف مع ارتفاع منسوب السكر فيها، وما هذه الاستنتاجات إلا قراءةً شخصيةً بحتة قد تسقط حقيقتها كما تسقط رسالة الإله السوري بعل مجرد كشف هوية أخيك السوري فور معرفتك مشروبه المفضل وطريقة تناوله له، وللمتة نصيبٌ كبيرٌ من هذا الصراع الوجودي.
المتة مشروبٌ ريفي غالباً، يميل إليه الفلاحون أبناء المناطق الجبلية الباردة، تشكل المحاصيل الزراعية مصدر رزقهم الأساسي، يعتمدون غالباً على مواسم الحصاد لاستكمال احتياجاتهم المعيشية وسداد ديونهم بسبب طبيعة الشتاء القاسية، يرتبط هذا الانتظار الطويل بمشروب المتة الدافئ، والذي يمكنك أن تقضي ساعاتٍ وأنت تشربها، وتختلف طريقة تناولها بين منِطقة وأخرى.
يميل أهل الساحل السورى مع سلاسله الجبلية إلى المتة الخشنة، يفضلون "الخارطة"، تتميز فيها محافظة طرطوس بالماء المغلي، ويمكنك تمييز ابن الساحل المغترب عن محافظته بكونه من جمهور خارطة البيضاء، بينما يفضّل السكان المحليون خارطة الخضراء ذات الخشونة العالية، يشترك سكان سلسلة جبال القلمون وجبل الشيخ وجبل العرب بتناول المتة الناعمة مرّة الطعم "بيبوري" شقيقة الخارطة اللدودة،
إضافةً إلى عادة تناول الحضور بكأسٍ واحد لا أعلم ما الحكمة من ذلك إلا أنه شيءٌ له علاقةٌ بالمصير المشترك للجماعة، تشاطرهم مدينة سلمية هذا التقليد لكنها تنفرد بماركة الصخرة، فيما تختلف حِمص مع طرطوس بدرجة حرارة الإبريق؛ يتفق ريف إدلب معها، أما إضافات المتة من الأعشاب والسكر تعود لأذواقٍ شخصية.
العولمة بأثوابها المتناسقة مع موضة الانفتاح والتطور المتسارع لوسائل التواصل لم تستطع الوقوف بوجه الثورة التراكمية والمعرفية للعنصرية المتجذرة فينا، يمكنك معرفة جذور أي سوري ونبش تاريخه، وكشف معتقده الفكري والديني والسياسي مجرد أن تعرف مشروبه المفضل، بل وأحياناً ربما يمكنك إثارة نعراتٍ مناطقيةٍ واجتماعيةٍ بين أبناء الشعب الواحد مجرد إسقاط قيمة مشروب ورفع آخر، أو إثارة الجدل حول الطريقة الأفصل لتناوله،
وإن كان يتفق الجميع على القهوة صباحاً، لكن هذا لا يعفيهم من تأنيب الرفيق زياد الرحباني حين قال: "شعب بيشرب هالقد قهوة المفروض يكون أوعى من هيك!"، والمقال للمتحزبين أولئك الذين يحاولون إسقاط قداسة طقس نكهة الشاي الأحمر الخمير المعتق الممزوج برائحة دخْان السجائر الأجنبية المتصاعد مع صورة حبيبتي، وصوت إلهام المدفعي، وهو يرتّل كلمات أبو عادل؛ الحبيب
مظفر النواب في رائعته:
"ردتك ولو شباك
يملي حياتي تراب
ردتك ولو صبيرة حمرة
تفيّ وجهي من حكي الغيّاب!"
حسن يوسف فخّور

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق