أريدهُ طبيباً.. عقدة المجتمع المريض!
مازحتُ صديقتي متقدماً بطلب يد ابنتها المراهقة للزواج، فاشترطت أن يكون العريس طبيباً؛ مما استفز غروري لأصرَّ على أن مكانتي في المجتمع كصحافي قد تتفوق على الأطباء أحياناً لا تضاهيهم فقط، لكنها أكّدت بجديةٍ شرطها أن يكون صهرها طبيباً حصراً.
أعادني ذلك إلى طفولتي؛ يوم فتحتْ جارتنا البسيطة عينيها بعد نجاح عمليتها، وتخيلتْ الطبيب أنا؛ كونه يشبهني كثيراً على حد تعبيرها؛ الأمر ذاته كانت تؤكده معلمة المدرسة والبيئة المحيطة بي؛ كونني كنت أتصدر قائمة المتفوقين في المدرسة، ويعززون رؤيتهم المستقبلية بالنظرية التي تتوارثها الأجيال السورية عن الأطباء، وهي خطهم الذي يشبه تخطيط القلب والذي كنت أتميز به مع بعض الزخارف التي سبقتُ الأطباء باختراعها، حيث شكّل خطي المسماري إلى جانب تحصيلي العلمي المرتفع بذرةً زرعتها تقاليد المجتمع في ذهني بحتمية كوني طبيب المستقبل رغم ميولي الشديدة منذ الطفولة إلى الفن على اختلاف أجناسه، فقد كنتُ أستمع لأغاني القرن الماضي، وأتابع المسرح والدراما بشغفٍ، وأكتب الشعر _اللهم اجعله شعراً_ قبل أن أنهي الأحد عشر عاماً.
كبرتُ على لقب "دكتور" بدلاً من اسمي إلا أنْ تشبع طموحي بتلك البدلة البيضاء، وكبرياء المشي في ممرات المستشفى وطبيبةٍ تشبهني، تحب الأدب مثلي وتحبني، نتزوج ونكوِّن عائلةً تشبهُ عائلة "الفصول الأربعة" بدفئها وثقافتها.
من أكثر العقد التي يعاني منها الأهل في هذه البلاد حتى اليوم هو أن يدخل أحد أبنائهم الفرع الأدبي، ويلوث سمعة الأسرة؛ نعم يلوثها، خاصةً فيما إذا كان الأب مهندساً أو طبيباً.
قال أحد أقاربنا ذات مرة: "من يدرس الفرع الأدبي كأنّه لم يدرس أبداً، هذا الفرع لا يدخله إلا الفاشلين"، درس هذا الرجل الثانوية العلمية، لكنه خرج منها إلى المهن الحرة، كما خرج أبناؤه قبل أن يستطيعوا الحصول على شهادة التعليم الأساسي، هو ذاته كان يسخر مني وأنا طالبٌ في الشهادة الثانوية بفرعها العلمي حين كان يمسكني متلبساً القلم وأنا أكتب الشِعر، كان يرميني بالجنون.
اجتزتُ شهادة الثانوية للفرع العلمي، وأنا أحمل حلم الطب في عيني، لم أفكر قط بالاختصاص، كل ما كان يهمني لقب "دكتور" الذي رافقني طيلة سنواتٍ، خاصةً بعد أن قال لي أحدهم بأنني سأكون شخصاً ذا شأنٍ في المجتمع.
شاءت الأقدار ألا أحصل على مجموعٍ يؤهلني لدخول كلية الطب؛ الأمر الذي أحزنني بدايةً وصدم الجميع، فقررتُ أن أدخل كلية الإعلام تيمناً بفتاةٍ، ونكايةً بمجتمعٍ مريضٍ؛ سرعان ما وجدتها مدرستي المناسبة التي ستصقل موهبتي، وتهذِّب قلمي وتوجهه؛ كي أحقق مشاريعي الفكرية والأدبية.
لم ينتهِ الأمر هنا، مرتْ السنون ودخلتُ الوسط الثقافي، وحصدتُ ورشةً لتعلِّم كتابة السيناريو على يديّ الكاتب حسن سامي يوسف؛ نتيجة فوزي وآخرين بمسابقةٍ أدبيةٍ كان قد أطلقها على مستوى العالم العربي، وحققتُ حلمي بمجالسته والمخرج الليث حجو، دخلتُ حقل العمل الإعلامي، والتقيتُ بالعديد من الشخصيات المهمة، ونلتُ شهاداتٍ لفظيةً من كبار كتّاب وصحافي سورية تشهد بقوة قلمي وفكري جعلتني أمشي مختالاً حتى كادتْ تُطَق عنقي، وما زلتُ أنال حصتي من اللوم ما يكفي لأغادر المجلس مشتاظاً من الغضب كل ما تطرق والداي للماضي وعثراته.
عملتُ قبل دخولي حقل العمل الصحافي بشركاتٍ خاصةٍ، التقيتُ أثناءها بشخصٍ يدرس الطب، استهجنتُ أن يعمل مثلي: "إنَّه طبيب!"، اقتربتُ منه، تحدثتُ إليه كان إنساناً طبيعياً مثلي تماماً، صار صديقاً نتبادل الأفكار والأحلام، يكتب مثلي إلا أنَّه أكثر هدوءاً، وأغزر ثقافةً، زرتُه في بيته لم يكن غريباً، كانت طبيعة حياته مثل حياة أي سوريٍ اليوم، كلُ ما يزيده عنا هو "البرستيج" الذي يفرضه المجتمع باختيار زوجةٍ ذي شأنٍ أو مهنةٍ مرموقةٍ من وجهة نظر المجتمع إلا أنَّ صديقي كان ذكياً إلى الحد الذي جعله يختار حياته التي تناسب وعيه إلى جانب زوجته التي اختارها متحدياً أنماطاً أخرى من العقد الاجتماعية.
تتداول مواقعُ التواصل الاجتماعي نكتةً تسخر فيها من الفتيات الفارغات اللواتي يتباهين بعدد المتقدمين الوهميين لهنَّ؛ ورفضهنّ لهم؛ أصحاب المهن المرموقة الذين لم يتماشوا مع طبيعة حياتهنَّ وأفكارهنَّ في محاولةٍ منهنَّ لجذب الانتباه، ولطالما تصدَّر القائمة الأطباء يليهم المهندسون والضباط، فالمحامون مستبعدين الصحافيين والمعلمين وحتى الممرضين من القائمة إلى جانب بقية المهن التي لا يراها مجتمعنا المريض بال"برستيج" والخلود ذات شأنٍ.
أنجزتُ مع صديقي منذ عامين ونيّف تقريراً صحافياً استطعنا به أن نعيد المياه إلى مجاريها بعد انقطاعها قرابة شهرين عن إحدى المناطق السكنية، أمضينا خلال تصويره ساعاتٍ نطوف الشوارع والحارات، وتعرضنا للمواقف التي يتعرض لها أي صحافيٍ يقوم بواجبه، لكننا لم ننل من التقدير المادي والمعنوي ربع ما ناله طبيب الأسنان من الشكر بعد أنْ استطاع بنصف ساعةٍ _ربما أكثر قليلاً_ أن يسحب لي العصب الفاسد، وينظف أسناني، ويسحب معهم ما يقارب نصف مرتبي الشهري حينها.
أدركتُ بعدها أن عملينا متقاربين؛ تصحيح الخلل، واجتثاث الألم إلا أننا نغوص في الأعماق أكثر إلى الحد الذي يجعله يحصل على أضعاف مرتبنا، ونحن نحصل على أضعاف احتياطي العالم من الخوف، فأيقنتُ أنَّ لوم أهلي بمكانه، خاصةً وأنني أحاول منذ سنينٍ تناول الغداء مع حبيبتي في إحدى المطاعم ذات النجمات القليلة، لكنني لم أستطع حتى اليوم؛ لأنني لستُ طبيباً.
يقول "النبي" جبران خليل جبران في كتابه: "أولادكم ليسوا لكم، أولادكم أبناء الحياة المشتاقة إلى نفسها، بكم يأتون إلى العالم وليس منكم." ، وفي رواية "عندما بكى نيتشه" يقول الطبيب الأميريكي إيرفين يالوم: "إنّ مهمتَكَ كأبٍ تكمنُ في ألّا تُنجب نفسَك، بل أن تُنجب شيئًا أرقى."
لا أعتقد هناكَ أوضح من هذه الرسائل؛ الرسائل التي لن يجد أولئك الآباء وقتاً، أو ربما لن يتنازلوا أصلاً ويقرأوها؛ أولئك الزعماء الصغار الذين يسعون جاهدين بما ورثوه عن آبائهم وأمهاتهم لتصدر محافل القرى والمجالس، الذين قال عنهم محمد الماغوط في مسرحية غربة: ضيعة كلها زعماء؛ من وين بدي جبلك شعب؟!.
حسن يوسف فخّور
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق