كتب فواز الشعراني: الفضيلة، الشرف، وخطر النداء السهل!
قبل أيام، أطل المرجع الروحي لطائفة الموحدين الدروز، سماحة الشيخ أمين الصايغ، في كلمة توجَّه فيها إلى عموم أبناء الدروز في مختلف الدول، مهنئًا بحلول أول أيام شهر ذي الحجة إيذانًا ببدء صوم العشر الأولى من الشهر استقبالًا لعيد الأضحى المبارك، أعاده الله علينا وعليكم بكل خير وعافية.
في مستهل الكلمة وبعد الدعاء والتهنئة، طرح الشيخ الصايغ جملة من الأسئلة التي تشغل بال أبناء الطائفة وغيرهم حول المستقبل والمآلات الممكنة للأوضاع الحالية، وكعادته فقد استخدم لغة واعظة عامة وموجهة نحو مجموعة من الأفكار والنقاط الرئيسة، والتي أرى أنه من الضروري لنا ملاحظتها والتنبه لها بشكل خاص ضمن السياق الاجتماعي لدروز سورية.
ففي السؤال عن المستقبل وما ننتظره في قادم الأيام، انطلق من إمكانية صوغ الإجابات انطلاقًا من حقيقة الجذور، وكيف وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم. فإن أردنا اليوم في سورية أن نجيب بصدق على هذا السؤال، علينا أن نواجه حقيقة المشهد لا ظاهره.
فدروز سورية على مدار القرن الأول من عمرها، ارتكزوا في بعض المراحل على العصبة والرباط الاثني الجامع في كثير من المفاصل التاريخية الدقيقة ضد المستعمر أو المحتل، وتحملوا دفع القدر الأكبر من فاتورة الدم في سبيل السعي والتوجه بانفتاح نحو الشريك الوطني، والسوري الآخر المختلف على امتداد البقعة الجغرافية السورية.
وفي الوقت ذاته حين أصبحت رموز هذه العصبة الدرزية ببناها الاجتماعية والرباط الاثني بخاصيته الدينية عائقًا دون ذلك، لم يتوانى الدروز لحظة في كسر سلطة هذا الرباط والتحرر منه في سبيل اللقاء مع الأخوة السوريين في سائر البلاد. وإن أردنا التحقق من ذلك، فلنراجع أكثر مسار الحراك السياسي والعسكري في جبل العرب منذ بدء الاحتلال الفرنسي لسورية وحتى الاستقلال ومن ثم الجلاء. إذًا فالانفتاح نحو شركاء الوطن بداوفعه المختلفة هو أول معالم حقيقة التجذر الوطني للدروز في سورية، لا التباين أو التمايز عن الآخرين.
وفي ترائي الغاية وصوغ الوسيلة، استشهد سماحة الشيخ فيما أُثر عن أرسطو قوله حول الفضيلة والشرف وأفضليتهما. ولعلَّ في ذكره هذا المثال رسالة مهمة لنا في صوغ عملنا وفعلنا السياسي والاجتماعي. فالفضيلة أفضل من الشرف، وهي ما يجب أن تكون من عندنا في البدء، فمنها ننال الشرف الذي هو ليس من عندنا، بل جزاء يقدم للجماعة أمام الفضيلة.
وفضيلة الدروز السوريين في السابق لا تبتعد كثيرًا عن جوهر الانفتاح نحو الآخر السورري، بل امتدت بنضال وطني طويل لحفظ وحدة واستقلال سورية، وسعيًا لبناء الدولة المواطنية، وتقديم مصلحة المجتمع على الجماعة، وقد قوبل هذا السعي بسعي سوري جامع فيه من الاحتضان والمحبة ما يفي بالشرف. ولعلَّ أحداث عام 1954م، مثال واضح على ذلك.
فلم يحتج الدروز يومها لإطلاق نداء حفظ الكرامة والأرض والوجود لصون شرفهم، بل كان للفعل السياسي السوري الجامع حينها دور أشمل وأوسع لرد الظلم، حينما بدأت المواطنة الوليدة تبدد الهواجس التاريخية للجماعة.
وهنا نعود إلى ما حذَّر منه الشيخ الصايغ حين أسماه بــ(النداء السهل)، الذي قد أصبح عبئًا على نداء الكرامة الذي طالما أطلقه الدروز عبر تاريخهم وفي المواقف الحرجة والصعبة. فهذا (النداء السهل) قد بدأ يهز أسس حصن الرموز الجماعية للدروز، عبر استخدامه لهذه الرموز في كثير من المواضع التي لم تكن ربما بحاجة لكل هذا الحشد والتجييش.
وأخيرًا نعود لنقطة كان قد ذكرها سماحة الشيخ في كلمته التي قد توجه بها قبل عام هجري كامل، والتي دعا فيها إلى إعاد إحياء دور المؤسسات وضرورة حضور دورها الجامع. فبتنا نرى ما لهذا الغياب الخاص بدور المؤسسات من آثار مجتمعية جمَّة عادت على المجتمع بشتات وتشرذم، وشروخ بتنا نلحظها بوضوح ودون عناء.
وخلط الدين بالسياسة بات فخًا يقع به من حذَّر من آثاره سابقًا، فالدين كمتغير حاضر وأساسي في مجتمعاتنا لا يجب إغفاله، لكنه من الخطورة الكبيرة بمكان جعل رموزه أدوات ووسائل للتعبير عن خطاب سياسي حتى لو كان ظاهره برّاقًا وعصريًا. فهنا لم يعد الدِّين لله، فبالتالي بات من الصعب السعي لإعادة الوطن المسلوب للجميع.
وختم سماحة الشيخ بتوجيهه الدعوة لنخب الدروز في مختلف المجتمعات لكي تقوم بدورها الفاعل والذي غابت عنه لسنين، وأرى أنه بات من الضروري بمكان تواجد هذه النخب على خارطة المشهد، تواجدًا مسؤولًا، بدور نزيه، وصيغة معقلنة تعيد لنا محاولة المأسسة الغائبة عن ثقافتنا لزمن طويل، وبالتالي فرصة مهمة لإعادة صوغ الهوية المعروفية الوطنية.
شكر الله سعي سماحة الشيخ الذي يكاد لا يفوت فرصة لتأدية دوره المهم المعبّر بحق عن تسميته (المرجع الروحي). إلّا أننا لابد من التأكد من أنه؛ لن تبلغنا خطبة دينية منتهى الرفاه، ولن نبني أوطاننا بمقالة هنا أو خطاب برَّاق هناك، ولن ترد المظالم صرخاتنا على أهمية وجودها وجسارة أصحابها، فالعمل المنظم والممأسس في إطار وطني جامع، وابتعادنا عن اعتقادات البراغماتية السياسية، واختزال فهم السياسة بقراءة المجتمع السياسي فحسب، والنهوض بالمجتمع عبر إعادة تعريفنا وفهمنا له فهمًا صريحًا دون أدلجة أو مواقف مسبقة أو خلط للأوراق، واحترام أدوار أبنائه ونخبه دون إقصاء هو ما يعيد لنا فتح باب التقدم والسعي المواطني الحقيقي الحافظ لحرية الأفراد وخصوصية الجماعات ومنظومة القيم من أجل تقدم المجتمع.
فواز نمر الشعراني
*الصورة: مقام الخضر في الجامع الأموي بدمشق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق