كتب د. عقيل محفوض: هل تفكر الأحزاب؟


 كتب د. عقيل محفوض: هل تفكر الأحزاب؟

هل ثمة ظاهرة حزبية في سوريا، وهل تمثل الأحزاب ظاهرة سياسية حاضرة ووازنة بالفعل، وهل يمكن تخيُّل بلد فيه حياة سياسية من دون أحزاب؟ وما معنى الحديث عن سياسة ومشاركة وانتخابات، وطموحات وتطلعات، ومواجهة التحديات، واحتواء مصادر التهديد أو اغتنام الفرص، وحتى مجتمع ودولة، من دون أحزاب؟
لا بد من التنويه بأن النص يريد التفكير في الظاهرة الحزبية في سوريا، وطرح جانب من الأسئلة التي يرى الكاتب أنه من الواجب طرحها في ظروف سوريا اليوم. ولا يقصد التقليل من أهمية ودور الأحزاب في تاريخ البلاد.
قد تكون الأحزاب السياسية إحدى أهم الإبداعات والابتكارات التي قدمتها الحداثة في أوروبا، ومنها انتقلت إلى أنحاء العالم. صحيح أن الظاهرة الحزبية تراجعت في العالم، ومنها دول المركز العالمي، ربما قبل أن تستقر وتنضج في الأطراف، وصحيح أنه ثمة بدائل حداثية وما بعد حداثية للتنظيم والفعل السياسي تتجاوز الأحزاب بالمعنى المعروف (التقليدي)، إلى شبكات الاتصال والتنظيم والمناصرة والمدافعة والتأثير الاجتماعي والسياسي؛ لكن الأحزاب ما زالت تمثل إحدى أسس السياسة في العالم، على مستوى المجتمعات والدول، ومنها ما له تأثير عابر للجغرافيات والأمم والأقوام.
والآن، أين الأحزاب السياسية والظاهرة الحزبية في سوريا من الشروط أو الظروف والمقدمات التي أنتجت حالة الصراع والحرب في البلاد، في أبعادها ومحدداتها المختلفة، الداخلية خصوصاً؟ وهل فكرت الأحزاب السياسية بالواقع، هل أنتجت قراءات وتقديرات حوله، وأي خبرة نظرية أو معرفية ونقدية وحتى تنظيمية راكمتها على هذا الصعيد؟ هل طرحت الأحزاب أي أفكار في سوق المعنى والتفكير حول الحرب، وحول سوريا ما بعد الحرب؟
لعل السؤال الأهم والأكثر حساسية وحرجاً هو: هل ثمة أحزاب حاضرة في سوريا، وما دورها في سياسات الحرب، وهل ينشغل الناس حقاً بوجود أحزاب، هل يلاحظون وجودها في حياتهم وشواغلهم ومتطلباتهم وتطلعاتهم؟
الأسئلة كثيرة وكبيرة ومعقدة. وسوف أستبق بعض التلقي المتوتر وربما الكيدي والتأثيمي لهذا الكلام، لأقول: ثمة موانع وكوابح كثيرة وكبيرة ومعقدة أيضاً، حالت وما تزال دون وجود ظاهرة حزبية جدية في البلاد. أقول ذلك حتى لا يبدو الكلام قاسياً أو متحاملاً على الأحزاب من جهة، وحتى لا أغفل عن الظروف الموضوعية التي تحيط بها، والتي أدت إلى شبه “موت” للظاهرة الحزبية، كما كنا نعرفها. وقد كان للأحزاب دور مهم في تاريخ البلاد، كما سبقت الإشارة.
لكن، إذا كانت ثمة مبررات لتراجع الظاهرة الحزبية، فقد لا ينسحب ذلك تماماً إلى حزب البعث الحاكم في البلاد منذ العام 1963. ولا شك أن الحزب المذكور مر بتحولات وأدوار وأطوار متعددة، ونجاحات وإخفاقات، وأسهم في دفع البلاد إلى مستويات مهمة في التنمية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ودفع بمشروعات وطنية وعروبية، لكنه بالمقابل حَكَمَ البلاد، بكيفية أدت بالظاهرة الحزبية إلى ما هي عليه اليوم، ولا نبالغ إذ قلنا إن تلك الكيفية كانت -مع عوامل وتداخلات وضغوط وإكراهات كثيرة- إحدى محددات وصول البلاد إلى ما هي عليه اليوم أيضاً. وهذا ليس حكم قيمة على الحزب، وثمة الكثير مما يمكن أن يقال عن جهوده وتأثيره في المستوى الوطني والإقليمي.
الواقع، أنه ثمة شكوك في أن الحزب قرأ ما يحدث في الداخل والخارج بالشكل الصحيح، ومنها التحولات في القيم الاجتماعية والسياسية، والتغيرات الجيلية، والإخفاق في السياسات العامة، والتحول في اتجاهات القيم لدى البيئة الداعمة له والمدعومة من قبله، من الأرياف والمدن الريفية إلى المدن الكبرى، ومن الفلاحين والعمال والشرائح الأضعف إلى قطاع المال والأعمال. وكيف أن الناس أخذت تبتعد عن السياسة بالمعنى الذي كان معروفاً، وأن ذلك لم يكن عزوفاً عن السياسة والأحزاب، بقدر ما كان انخراطاً في السياسة إنما بوسائل أخرى.
وأظهرت استقطابات الأزمة والحرب منذ العام 2011، إلى أي حد كان الحزب غارقاً في منطقة “الأمان الكسول”، ولم يقرأ كيف أصبح مفتقراً لتأييد شريحة متزايدة ممن يفترض أنه صوتهم وقوتهم، وكانوا قبل ذلك “مادته” و”عدته” في حكم البلاد. وهذا باب فيه كلام كثير.
قد يكون غريباً أن الأحزاب لا تكاد تقول شيئاً حيال الأزمة والحرب، أو حيالها هي بالذات؛ لا تفعل شيئاً تقريباً حيال أعضائها ومحازبيها وجمهورها، ولا حيال غيرهم. وبدت البلاد كما لو أنها بلا أحزاب، خلا استثناءات قليلة خلقتها ظروف الحرب؛ وبلا فواعل سياسية من غير أجهزة الدولة ومؤسساتها. ويفترض في حالة حرب من هذا النوع أن تستثير استجابات اجتماعية موازية لاستجابة الدولة، ولا شك أن شيئاً من ذلك حدث، بقوة وهمة، لكن ليس في أفق الأحزاب السياسية، كما تتكرر الإشارة.
وبالكاد تجد صحيفة أو منبراً يقول رأياً حزبياً حول الشأن العام. وأنا لا أتحدث عن “كلام في السياسة”، وإنما عن آراء أو برنامج قابلة للقراءة، أو قابلة للتلقي بالمعنى الاجتماعي والسياسي وتكون قادرةً على تمييز نفسها -ولو بالحد الأدنى- من الخطاب السياسي والإعلامي الرسمي أو شبه الرسمي. لا شك أنه ثمة منابر ومواقع وصفحات تتحدث باسم أحزاب، ولكن هذا ليس ظاهرة حزبية بالمعنى الذي تعرفه الأحزاب في العالم، أو بمستوى الأزمة والحرب في البلاد وعليها.
والآن، لو أن زكي الأرسوزي، أو أنطون سعادة، أو ساطع الحصري، أو مصطفى السباعي، أو ميشيل عفلق، أو ياسين الحافظ، أو الياس مرقص…إلخ شهدوا الحرب، ماذا كان يمكن أن يقولوا ويفعلوا؟ وهل يمكن لوثائق وأوراق حزبية كتبت منذ عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي أن تقول شيئاً اليوم؟ هل يمكن أن تمثل متكئاً لظاهرة حزبية حيوية اليوم، هل تجد نصوصٌ حزبية تأسيسية من يقرأها اليوم، هل هي قابلة للقراءة؟
وهل تجد نصوصٌ مثل “بعض المنطلقات النظرية” لـ”حزب البعث” من يقرأها. بل هل قرأها أو عرفها قياديون وناشطون بعثيون اليوم؟ قد لا نجد الكثير من المؤشرات الدالة على ذلك، بصرف النظر عن الفائدة المتوقعة من قراءة نصوص من هذا النوع، في تحليل الحدث السوري اليوم وعوالمه المختلفة والمتداخلة. وهذه مسألة خلافية في أي حال.
إذا لم تفكر فواعل السياسة أو ما يفترض أنها كذلك، بأحوالها وأفكارها وحضورها وتأثيرها…إلخ، بعد كل ما حدث، وإذا لم تراجع ما كانت عليه ولم تطرح الأسئلة المناسبة، فهذا يعني أنها في حالة “اغتراب” أو “انفصال” عن مقتضيات الواقع، أو “حالة إنكار”، أو هي في “حالة استقالة” أو ربما في “موت”، إن أمكن التعبير. وأرجو أني لا أبالغ في ذلك.
لكن، لماذا لم تتمكن الظاهرة الحزبية من النظر إلى نفسها فكرياً وثقافياً وسوسيولوجياً، ولماذا أصبحت الأحزاب والتنظيمات أقرب لهيكليات “بلا مجتمع” و “لا مثقفين”، و “لا برامج” و “لا سياسات”…إلخ، بل أنها أقامت “حواجز” بينها وبين المجتمع وفواعله الفكرية والثقافية، بما هم فواعل وذوات وإرادات، وأصرت على النظر إليهم بوصفهم “موضوعات” و”محازبين” و”أتباع” أو بكلمة واحدة “جمهور” أو “جماهير”؟
وهل حاول فواعل السياسة فهم الواقع كما هو، أم أنهم أقاموا أو هندسوا أو شكلوا فكرة عنه (الواقع)، من دون توفر شروط يمكن أن تساعدهم في ذلك، أو في التحقق مما فعلوه، ما إن كان حقيقياً أو واقعياً، أو كان متوهماً وبعيداً عن الواقع؟ ولو حاول فواعل السياسة والفكر أن “يعَوا الواقع”، فهل يمكنهم ذلك حقاً، هل يمكنهم التفكير، من خارج الأطر والمرجعيات المفاهيمية التي شكلت عقديتهم أو إيديولوجيتهم؟
قد لا يكون من السهل على الأحزاب أن تفكر، وإذا حاولت ذلك فقد لا تتمكن من الخروج عن النمط الفكري والمفاهيمي، وحتى الإجرائي والتنظيمي، الذي يطلب من المحازبين الإخلاص لما هو مقرر ومحدد سلفاً، بما في ذلك أفق التفكير. وإذا ما خرج أحد عن الصراط، فمصيره الطرد من جنة الحزب، والوصم بالانحراف، والاتهام بالعمالة أو التخوين، أو سوء النية، على أقرب تقدير. حدث ذلك كثيراً لدرجة أن من يريد التفكير يجد نفسه خارج الأحزاب، سواء فعل ذلك بقرار ذاتي أم فعلت الأحزاب ذلك به، بقرار منها. وهذه معضلة الأحزاب ككل، وليس فقط الأحزاب في سوريا أو حزب البعث تحديداً.
وفي الختام، إن الحزب السياسي، بتعبير مستعار من أنطونيو غرامشي، هو “الأمير الحديث” الذي يتطلع ليس لـ”الحكم” أو “المشاركة في الحكم” أو مجرد الحفاظ عليه، وإنما لـ”تغيير” المجتمع والدولة، والدفاع عنهما، والدفع بهما إلى الأمام. ويفترض بالأحزاب السياسية أن تكون “قوة تحريك” أساسية في المجتمع والدولة، لا “قوة عطالة”.
واستعير أيضاً، بشيء من التصرف، كلاماً مهماً للفيلسوف آلان باديو، يتحدث عن أن السياسة هي خلق وإبداع للمفاهيم والمدركات، وخلق للدالات والتفاعلات، وأن هذا ما يُفترض أن تحاوله الأحزاب، وخصوصاً تلك التي يقع على عاتقها حمل البلاد إلى بر الأمان. وهذه أيضاً مهمة تحت اختبار دائم، وإذا وجد الحزب أنه في تراجع أو تعثر أو إخفاق، فإن عليه أن يعيد النظر في نفسه وفي واقعه وعالمه.
إن أحزاباً “بلا فكر” أو “بلا تفكر”، هي أحزاب “لا تعمل” بمقتضى كونها أحزاب ذات قوة وحيوية، إنما بوصفها جماعات أو عصائب، غايتها الحفاظ على نفسها، وما أمكن من تأثير وضبط وتحكم (أو مشاركة) في توزيع الموارد المادية والمعنوية. وهذا ما يجب أن “تتحرر منه” الأحزاب، لا أن تجد فيه أو تسعى إليه.
د. عقيل سعيد محفوض
موقع أثر برس 02-05-2024

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق