الامتثال المفرط للعقوبات الوجه الأخر للآثار الجانبیة للعقوبات على الحالة الإنسانیة
في عالم الیوم الذي تتداخل فیه المصالح الدولیة، یشكل اللجوء إلى العنف العسكري لتحقیق أھداف سیاسیة تحدیات خطیرة على الأمن والاستقرار العالمیین. إن كل استخدام للقوة ینطوي على تداعیات غیر متوقعة ولا یمكن السیطرة علیھا على المشھد الدولي. وبالمثل، أصبح اللجوء إلى مجلس الأمن لحل الأزمات السیاسیة الكبرى أكثر صعوبة نظراً للتنافس الحاد بین القوى الكبرى في المجلس.
أحد المخاوف الرئیسیة ھو التأثیر الجانبي لھذه العقوبات على الكیانات غیر الخاضعة للعقوبات خاصة في الجانب الإنساني. ولھذا السبب تُفرض العقوبات في كثیر من الأحیان مرفقة بأشكال مختلفة من الاستثناءات لتقلیل تأثیراتھا السلبیة.
إن معظم أنظمة العقوبات في الوقت الحاضر تستبعد من الناحیة النظریة فئات محددة من المعاملات الإنسانیة والأعمال التجاریة المدنیة العادیة التي لا علاقة لھا بصنع القرار السیاسي، ولكن ذلك لا یمنع من ظھور تأثیرات جانبیة خطیرة. الملاحظات التالیة حول التأثیرات الجانبیة لمنظومة العقوبات مستمدة من مناقشة جرت مؤخراً حول تأثیر الامتثال المفرط للعقوبات المفروضة على سوریا. وقد حضر اللقاء ممارسین وخبراء متنوعین لمناقشة ھذه القضیة.
تخلق العقوبات بشكل مباشر أو غیر مباشر تأثیرات جانبیة تمتد إلى جوانب لا تشملھا النوایا المعلنة للأطراف التي تفرض العقوبات. إن الخوف من العقوبات یخلق مقاطعة فعلیة تمتد إلى ما ھو أبعد من الكیانات الخاضعة للعقوبات، خاصة عندما تكون الكیانات التي تفرض العقوبات قویة ویمكنھا فرض عقوبات صارمة على الأطراف التي تنتھك أھدافھا المعلنة. في حالة أوروبا، تمتد ھذه العقوبات إلى جمیع الجھات الأوروبیة العامة والخاصة، ولكن في حالة الولایات المتحدة الأمریكیة، غالبًا ما یكون لھذه العقوبات آثار خارج حدود السیادة الأمریكیة على أطراف ثالثة في بلدان أخرى.
المخاطر المترتبة عن العقوبات وتكلفة الامتثال لھا
غالبًا ما تزن الجھات التجاریة، وخاصة البنوك، المرابح والفائدة من المعاملات التجاریة المستمرة مع الكیانات غیر المعاقبة في البلدان الخاضعة للعقوبات مقابل مخاطر إجراء مثل ھذه الأعمال. وفي حالة البلدان التي تشھد صراعات مثل سوریا، یُنظر غالباً إلى ھذه المخاطر على أنھا مرتفعة للغایة. علاوة على ذلك، لتجنب العقوبات بأثر رجعي، یتعین على البنوك والمؤسسات المالیة أن تتحمل تكالیف كبیرة لضمان الامتثال لشروط العقوبات. ھذه التكالیف أعلى بكثیر من العوائد المتوقعة من تلك المعاملات.
ومن ثم، ھناك حدیث الآن عن الإفراط في الامتثال باعتباره تحدیًا أخطر بكثیر للمخاوف الإنسانیة من العقوبات نفسھا. ومن الناحیة العملیة، غالبًا ما یتم اختزال قضیة الإعفاءات الإنسانیة من العقوبات إلى استثناءات تتعلق بالحصول على المساعدات الإنسانیة التي یقدمھا المانحون؛ إذ أن اھتمام المؤسسات الناظمة للعقوبات لا یتسع غالباً القضایا الإنسانیة الأخرى التي لا تعالجھا مساعدات الجھات المانحة.
في الواقع، لا تمثل مساعدات المانحین الإنسانیة سوى جزء صغیر من الموارد اللازمة للحفاظ على سبل العیش والحمایة من الآثار الإنسانیة للعقوبات. إن الوصول إلى التحویلات المالیة والمعاملات التجاریة العادیة التي تحفظ فرص العمل وتخلق مضاعفات اقتصادیة كافیة في الاقتصاد المحلي لتوفیر الاحتیاجات الأساسیة عادة ما تكون أكثر أھمیة من أموال المانحین لتجنب الأزمات الإنسانیة. في سوریا، لا تغطي المساعدات الإنسانیة سوى %20 من الاحتیاجات وھي في الغالب تقدم إلى الأشخاص الأكثر احتياجاً.
بالمقابل، تمنع التحویلات المالیة للمغتربین ودورة الاقتصاد المحلي نسبة الـ 80% الأخرین من الانزلاق إلى حالة العوز الشدید. ولكن مع الإفراط في الالتزام المفرط من قبل المصارف، تتم مقاطعة غیر معلنة لھذه المعاملات العادیة غیر الخاضعة للعقوبات، على الرغم من الاستثناءات الواردة في منظومة العقوبات.
تشكل الاقتصادات المحلیة للبلدان الخاضعة للعقوبات نظاماً بیئیًا معقدًا
غالبًا ما تعكس سلاسل التورید وسلاسل القیمة روابط اجتماعیة واقتصادیة معقدة. وتشكل الجھات الخاصة التي لا تخضع للعقوبات )الأغلبیة الساحقة من الشركات في سوریا( جزءاً من شبكات اقتصادیة تعتمد على الحكومة بطرق متعددة. فالحكومة ھي الجھة الرقابیة والتنظیمیة؛ وھي توفر البنیة التحتیة الأساسیة ومصادر الطاقة اللازمة لازدھار الصناعة والزراعة، وغالباً ما تكون في حالة سوریا، نظراً لإرث ماضیھا الاشتراكي، جزءاً من سلاسل التورید نفسھا.
على سبیل المثال، یتم تخزین الحبوب المنتجة في جزء واحد من البلاد في صوامع في أجزاء أخرى من البلاد ویتم طحنھا في أجزاء أخرى. ونظام الري والصوامع والمطاحن كلھا مملوكة للدولة. وتقوم الدولة أی ًضا بتنظیم الأسعار لمنح المزارعین الأمان للاستثمار في الزراعة في ضوء تقلبات أسعار المنتجات المواد الغذائیة في السوق العالمیة.
ویستفید القطاع الخاص من دور الدولة في توفیر أجزاء أخرى من سلاسل القیمة والتورید. فتقوم الاستثمارات الخاصة بتنفیذ عملیات الزراعة والنقل وتحویل الطحین إلى منتجات غذائیة، حیث یشكل الخبز وغیره من المنتجات الغذائیة المعتمدة على القمح الغذاء الأساسي لضمان البقاء لمعظم الأسر التي تعیش تحت خط الفقر في سوریة الیوم. لقد أدت العقوبات على مؤسسات الدولة بدون شك إلى عثرات كبیرة في قدرة سلاسل التورید على العمل بشكل صحیح.
علاوة على ذلك، وبما أن سلاسل التورید تنتشر على طول البلاد وعرضھا، فإن التأثیر على جزء من سلسلة التورید في مكان ما یؤثر على جمیع مكوناتھا الأخرى في مناطق أخرى. ولا یمكن إذاً أن احتواء التأثیرات الجانبیة للعقوبات ضمن مناطق جغرافیة محددة. فحتى الأطراف السوریة المتحالفة مع الدول التي تفرض العقوبات تعاني الیوم من ھذه التأثیرات الجانبیة. لذا لا یمكن رؤیة قضیة الأمن الغذائي من خلال العدسة الضیقة للمساعدات الإنسانیة وحدھا.
الضغط على الاقتصادات المحلیة یخلق أشكالاً جدیدة من المرونة بطرق غیر متوقعة
كان على الجھات الفاعلة في القطاع الخاص التكیف مع التأثیرات الجانبیة المعقدة التي خلقتھا العقوبات.
وفي كثیر من الحالات عنى ذلك لجؤھم إلى الطاقات البدیلة للتغلب على النقص في النفط الذي فرضته العقوبات. كما لجأوا إلى بدائل لاستبدال وارداتھم من الاستثمارات والتمویلات الغربیة والمواد الأولیة والتكنولوجیا والمنتجات وقطع الغیار.
غالباً، تم العثور على ھذه البدائل في السوق المحلیة مما ساعد في تحفیز سلاسل تورید جدیدة ساھمت في تولید مضاعفات اقتصادیة ایجابیة في الاقتصاد المحلي. إلا أنھم، في معظم الحالات، لجأوا إلى قنوات السوق السوداء لإنجاز أعمالھم واستیراد المواد التي یحتاجونھا من الخارج.
في الغالب، بحثوا عن البدائل في البلدان التي لا تفرض عقوبات ولا تھتم بشكل خاص بتأثیر العقوبات الأمریكیة الثانویة. وھكذا، وبطریقة ما، فإن الشبكات الاقتصادیة السوریة التي كانت دائما تتجھ نحو الغرب تحولت تدریجیاً نحو الشرق.
ومن ناحیة أخرى، فإن العدید من التحویلات المالیة المطلوبة تقوم بتجنب الالتزام المفرط بالعقوبات من قبل المصارف الغربیة )خاصة المصارف المراسلة( من خلال اللجوء إلى قنوات تحویل الأموال غیر الرسمیة مثل "الحوالات". ومن حیث المبدأ، أصبحت ھذه القنوات تخضع على نحو متزاید للإشراف التنظیمي من جانب الھیئات الرقابیة الدولیة.
ولكن في حالة سوریا والعدید من البلدان الأخرى التي تشھد صرا ًعا، فإن نظام "الحوالة" ھو جزء من اقتصاد الحرب، ویرتبط "الصرافون" أو "دور الحوالات" ارتباطا وثیقًا بالقوى العسكریة وسلطات الأمر الواقع. فالأموال التي یتم تحویلھا عبر ھذه الأنظمة لا تنتقل بین الداخل والخارج، بل یتم مقایضتھا لنقل الأموال غیر المشروعة.
فھي لا تولد أي قیمة مضافة في الاقتصاد المحلي؛ وھي غیر مراقبة ولا منظمة. والأسواء فیھا، أنھا تدعم وتمكن الأطراف التي تھدف العقوبات إلى إضعافھا. في حالة سوریة، من المفھوم جیدًا أن العقوبات المفروضة على الدولة السوریة وجدت لتضغط على السلطات السوریة لتغییر سلوكھا السیاسي، لكن التأثیر الفعلي للإفراط في الامتثال من قبل المصارف بنظام العقوبات ھو تمكین جھات فاعلة غیر حكومیة وجماعات إرھابیة )معاقبة بموجب أنظمة العقوبات أخرى(، مما یساھم في تكریس اقتصاد الحرب وتثبیط فرص السلام.
إن الإفراط في الامتثال لنظام العقوبات له انعكاسات عدیدة وتأثیرات جانبیة سلبیة. فالجھات الفاعلة في القطاع الخاص المتضررة من تلك التأثیرات مقیدة في قدرتھا على تولید فرص العمل تحد من دوافع الھجرة؛ ویقلل الامتثال المفرط من قدرتھا على المساھمة في انتاج سلاسل القیمة الأساسیة اللازمة لبقاء المجتمعات (الغذاء والدواء)، وعلى نفس القدر من الأھمیة، فإن الامتثال المفرط یقلل من قدرتھا على الانخراط في تحفیز رأس المال الاجتماعي والمساھمة في التضامن الاجتماعي والأعمال الخیریة، وبالتالي تحد من امكانیة سد فجوات كبیرة لا تغطیھا المساعدات الإنسانیة التي یقدمھا المانحون.
لا بد إذًا للأطراف التي تفرض العقوبات أن تتوقف عن الادعاء بأن العقوبات التي تفرضھا لا تضر بالقضایا الإنسانیة. ویجب توسیع مفھوم الحاجات الإنسانیة من خلال النظر إلى القضیة بشكل شمولي. ما یجب أن یحدث قریبًا، قبل أن یتم تدمیر ما تبقى من قدرة القطاع الخاص على الصمود، وقبل أن تخاطر موجات جدیدة من الشباب السوري بحیاتھم بشكل جماعي للھجرة ومغادرة البلاد، ھو ما یلي:
معالجة مسألة الامتثال المفرط بحسن نیة
ھناك ندرة في الأبحاث والأدلة على تأثیر الامتثال المفرط للعقوبات على القطاعات الإنسانیة، لكن الأدلة القلیلة المتوفرة تشیر إلى تأثیرات جانبیة خطیرة: فیما یلي تقریران ممتازان حول ھذا الموضوع:
OXFAM - TURN ON THE LIGHT: Why tackling energy-related challenges in the nexus of water and food in Syria cannot wait.
THE CARTER CENTER - The Unintended Consequences of U.S. and European Unilateral Measures on Syria’s Economy and Its Small and Medium Enterprises
https://www.cartercenter.org/.../syria.../syria-unintended- consequences-aita-12-20.pdf
لذا یتعین على الجھات التي تفرض العقوبات أن تنخرط في حوارات عاجلة للتخفیف من التأثیرات الجانبیة لعقوباتھا. وفي ھذا السیاق، تظھر الجھات الفاعلة في القطاع الخاص السوري مسؤولیة متنامیة في تنفیذ إجراءات العنایة الواجبة بحسن نیة ویطلبون مقابلتھم والاستماع إلیھم. ویجب أن یحدث ھذا الحوار قریبًا. ولدى الأطراف التي تفرض العقوبات مجموعة متنوعة من الأمور التي یجب مراعاتھا:
• الإعلان عن محددات عقوباتھم بشكل واضح للغایة، من خلال إصدار توجیھات واضحة لیس فقط فیما یتعلق بإعفاءات المساعدات الإنسانیة، ولكن بخصوص جمیع الاستثناءات التي لا تغطیھا العقوبات.
• استضافة اجتماعات لجمع الجھات الفاعلة في القطاع من كل من البلدان الفارضة للعقوبات والخاضعة لھا لبناء الثقة وشرح محدودیة العقوبات.
• النظر في تحفیز أنواع معینة من التحویلات التي تعتبر حیویة لصناعات الغذاء والدواء، ولیس فقط الوصول إلى المساعدات الإنسانیة الخاصة بالمانحین. ویمكن أن یشمل ذلك قنوات أو خطوط ائتمان تم فحصھا والموافقة علیھا مسبقًا، وتبسیط آلیات الامتثال والتحقق، وتوفیر إعفاءات ضریبیة لتغطیة تكالیف الامتثال، وما إلى ذلك.
• الامتناع عن إرسال رسائل سلبیة جدیدة لن تؤدي إلا إلى إخراج الكیانات غیر الخاضعة للعقوبات المتبقیة من العمل. ما یجب أن یحدث ھو تفكیك أخطار الامتثال ولیس تعقیدھا.
سوف تنعكس عواقب الفشل في القیام بذلك في كوارث إنسانیة كبرى، حیث لا یمكن للأطراف التي تفرض العقوبات أن تعفي نفسھا من مسؤولیاتھا إذا لم تتصرف بحسن نیة.
الوضوح بشأن الأھداف السیاسیة للعقوبات
للعقوبات طرق عدیدة للاستمرار والتأثیر خارج نطاق أغراضھا المقصودة الفعالة لأن الأطراف التي تفرض العقوبات غالبًا ما تفتقر إلى الوضوح والإرادة السیاسیة لإزالتھا. ولكي تنجح العقوبات، فإنھا تحتاج إلى الوضوح بشأن غرضھا وتحدید شروط لا غموض فیھا لإزالتھا. إن العواقب الإنسانیة على بلدان أخرى غیر سوریة تعلمنا درو ًسا مھمة حول التأثیرات الجانبیة للعقوبات على بقاء ورفاه المجتمعات على المدى الطویل. وحالة العراق خیر مثال على ذلك.
عمر عبد العزیز الحلاج
شریك مؤسس في لوغاریت
19 آذار 2024
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق