عن الذاكرة وتنقيتها وروح المؤسسات الدينيّة
قليلًا ما كنت أتابع أي خطبة دينية أو كلمة في مناسبة دينية لأسباب عدة... لكن منذ أيام، وتحديدًا في مطلع شهر ذي الحجة، لفتني ما صرح به المرجع الروحي لطائفة المسلمين الموحدين (الدروز)، الشيخ أمين الصايغ عبر كلمة توجه بها إلى عموم أبناء الطائفة، مهنئًا بحلول الشهر وبدء أيام صوم العشر الأولى منه، استقبالًا لعيد الأضحى المبارك.
كلمة قد تبدو للوهلة الأولى إجراء روتينيًا ربما، يقوم به أي رجل دين مهنئًا بحلول مناسبة طقسية دينية، من خلال لغة واعظة وتوجيهية على الصعيدين الفردي والجماعي. لكن ما لفتني بحق هو جملة من النقاط المثارة ضمن هذه الكلمة التي لم تتجاوز مدتها الخمس دقائق:
فما ورد كان دعوة صريحة منه إلى التأمل بعين العقل وبدء حوار ذاتي، لحفظ أمن "الهوية المعروفية" عبر سبر الهوية الخاصة بالنفس والجماعة من خلال أسئلة بسيطة ومعقدة في آن، تتناول تاريخ الجماعة، وجغرافية تموضعها، ورسالتها الإنسانية. فالهوية وإن كانت عناصرها قد تبدو ثابتة إلا أنها في الآن ذاته صيرورة لا تنتهي، فهي باختبار وسبر دائم في كل زمن، من خلال ما يفرضه هذا الزمن من مستجدات وتحديات. وهذا ما أشار إليه بالفعل عبر ما دعا إليه لدعم أمن هذه الهوية بإضفاء قيم الحرية والعلم التي اعتبرها "قيم العصر".
ولعل أكثر ما لفتني هو إشارته إلى ما أراه شخصيًا، إشكالية ملحة خاصة بكل جماعة دينية أو إثنية في بلادنا، وهي الذاكرة وضرورة دراسة ما تنضوي عليه من أحداث وصور جماعية، دراسة واعية ومسؤولة في سبيل تنقيتها سعيًا لعيش مشترك كريم. فأشار إلى ذلك عبر دعوته إلى العودة إلى ينابيع الماضي العذبة لا إلى كهوفه المظلمة. وأخيرًا دعا إلى "إحياء روح المؤسسات"، لما يراه ضرورة لدورها في "المجتمع الدرزي" وعودة نمو قواه الاجتماعية، وما لدورها أيضًا من أهمية في الحد من هجرة أبناء وبنات الطائفة.
لعل ما ذكر كان من النقاط الأساسية والمهم إثارتها في مجتمعات طائفة المسلمين الموحدين في بلدان المنطقة.
ولربما نحتاج إلى طرحها وغيرها من الإشكاليات بجدية داخل الجماعة نفسها في سورية.
فنحن اليوم بحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى وقفة مع الذات لإحياء وتعزيز القيم الإيجابية الموروثة، وأن نتصالح مع ما يستجد على مجتمعنا من تحديات وأفكار جديدة دخيلة، حماية لأصالة الهوية وتعزيزًا وتطويرًا لقيمها، ودفعًا بالناس نحو لقاء أقل قلقًا وأوضح أفقًا مع الآخر المختلف، داخل الجماعة الدينية وخارجها. وأهم ما يتطلبه هذا الأمر من شروط، هو الانتظام والمأسسة وإعادة الاعتبار للمؤسسات داخل المجتمع، لما لدورها من أهمية في تسهيل اللقاء والدفع للأمام في خدمة الناس وتخفيف أعباء السنوات الطويلة الماضية.
في يوم وقفة العيد، لعل أجمل وقفات هذا العام، كانت وقفة السوريين في الجولان المحتل في وجه الاحتلال الإسرائيلي ومشاريعه، مؤكدين أن برغم كل ما عانيناه ونعانيه من ظروف وتحديات وتصدعات وضياع، لم تزل بوصلتنا واحدة وواضحة، ولم يزل رباطنا الوطني شديدًا وقويًا ، ولم تزل قيمة الحرية مطمئنة ضمن منظومة الجماعة القيمية، لكن أهم ما نحتاجه هو صدق العمل وخيره.
إلى كل من فقد عزيزًا هذا العام:" كان بدنا تعيدوا مجبورين الخاطر"
إلى كل من منتظر وحالم وساعٍ:"عجل الله فرجنا وفرجك"
إلى الناس أجمعين: "كل عام وأنتم بخير وصحة وسلام"
فواز الشعراني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق