كانت فرنسا (ذات الدبلوماسيّة المتخلّفة كما وصفتها سورية منذ أيام) تحتل بلدنا قبل 78 سنة بحجّة تحضيرها، هاجمت البرلمان السوري وقتلت حاميته! وهذا شيء نادر حتّى في أسوأ الحروب والإعتداءات، تعالوا نقرأ ما كتبه الأستاذ سعد القاسم عن لوحة الفنان سعيد تحسين التي صوّرت هذه الجريمة بلوحة تشكيليّة خالدة!
الوظيفة الأولى وما بعدها، سعد القاسم
ربما لم تعرف لوحة سورية من وفرة الاستشهاد بها ما عرفته لوحة (الاعتداء على المجلس النيابي)،ففي كل مرة يطل بها التاسع والعشرون من أيار مصطحباً معه ذكرى الهجوم الوحشي الذي نفذه الجيش الفرنسي على مبنى البرلمان السوري لا يجد العاملون في الإعلام بحوزتهم سوى صورة اللوحة التي رسمها الفنان الرائد سعيد تحسين في عام الجريمة ذاته (1945) والمحفوظة في المتحف الحربي بدمشق، لترافق موادهم الصحفية والتلفزيونية.
ويذكر الفنان غازي الخالدي في كتابه عن سعيد تحسين أن هذه اللوحة قد طبعت حينذاك ووزعت كوثيقة إدانة لفرنسا،وبذلك فهي قد قامت بالدور التسجيلي الذي كان منوطاً باللوحة التشكيلية قبل ظهور آلة التصوير الضوئي التي حملت عن الفن التشكيلي هذه المهمة، وأطلقت حريته في مجال الإبداع والابتكار.أما لماذا أخذت لوحة مرسومة هذه الوظيفة التوثيقية في زمن عرف فيه التصوير الضوئي واستخدم على نطاق واسع؟
فالسبب ببساطة هو عدم نشر أي صورة ضوئية عن الجريمة،في حين أن كتاباً صدر عن احتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية قد ضم صوراً مروعة للجرائم التي ارتكبها الفرنسيون حين كانوا يسوقون الفلاحين الأبرياء من بيوتهم في غوطة دمشق لإعدامهم في ساحة المرجة، لكن تلك الجرائم كانت تبرر بإدعاء أن الضحايا هم مقاتلون ضد قوات الاحتلال، لكن كيف يمكن تبرير اعتداء على برلمان بواسطة جيش دولة تتشدق بالديمقراطية ومبادئ ثورة الحرية والعدالة والمساواة؟ وربما يفرج يوماً عن صور جريمة البرلمان حين يكون القرار بيد جهة تناهض الفكر الاستعماري كما حدث حين كشفت الثورة الروسية وثائق سايكس- بيكو التآمرية على العرب ومستقبلهم ووحدة بلادهم.
وبالعودة إلى اللوحة فقد اختار سعيد تحسين أن يشغل مبنى البرلمان القسم الأعظم منها شامخاً بعمارته العربية الأنيقة ولونه الأبيض،مظهراً بذلك التناقض الحاد بين ما يمثله من رمز وطني وحضاري، وبين همجية المعتدي المتمثلة في رشاشاته ومدافعه وطائراته المحيطة بأطراف اللوحة والمبنى بآن واحد،في حين تتركز بؤرة الضوء في قلب المبنى واللوحة بفعل انفجار القنابل.
غير أن ثمة لوحة مغمورة لفنان رائد آخر تتعلق بتلك المرحلة تستحق التوقف عندها،إنها لوحة تحمل عنوان (يوم لم يكن لدينا جيش) للفنان ميشيل كرشة،وقد أتيح للجمهور مشاهدتها قبل بضع سنوات فقط خلال معرض استعادي للفنان أقيم في المتحف الوطني بدمشق وكانت كشفاً بمعنى الكلمة لأنها ردت اتهاماً ظالماً قديماً عن ميشيل كرشة،وأضافت للحياة الثقافية السورية عملاً على درجة عالية من الأهمية الفنية والتاريخية والرمزية.
ينحو ميشيل كرشة الانطباعي في لوحته هذه صوب التعبيرية الرمزية حيث يتخيل مشهداً رمزياً لنهاية الاحتلال الفرنسي لسورية فيحشد في القسم الأيسر من لوحته جنود الجيش الفرنسي يتقدمهم الجنرال(غورو) وضباطه وكبار المستثمرين،وفي آخر الحشد جنود المستعمرات.ويجمع في القسم الأيمن أرامل سوريات متشحات بالسواد وبينهم أطفال وبين المجموعتين قبر يخرج منه طيف شهيد.في هذه اللوحة ذات التأثير الوجداني القوي كشف ميشيل كرشة عن إدراك مبكر عميق لضرورة وجود جيش وطني قوي يرد المخاطر عن البلاد أياً كان نوع هذه المخاطر وأياً كان مصدرها.
سعد القاسم
*نشرت لأول مرّة في 31/5/2011
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق