عن شوايا سوريا، كتب الصحافي محمود عبد اللطيف:
تسكن مجموعة من القبائل العربية منطقة حوض الفرات والجزيرة السورية، إضافة لريف حلب الشرقي، وإدلب الجنوبي الشرقي، وشرق حماه وحمص، وهي قبائل لها امتدادها البشري نحو العراق وتركيا والأردن، وصولاً لدول الخليج. ورغم هذا الانتشار إلا أن سكان مناطق شمال شرق سورية فقط هم من يُعرفون باسم الـ “شوايا”، دوناً عن سواهم من بقية القبائل والعشائر العربية.
ويطلق على السوريين/ات من قبائل مثل “الجبور – العكيدات – البكارة”، مسمى الشوايا في حين أن أبناء/بنات هذه العشائر في العراق لم يُعرفوا بهذا المسمى قبلاً، وقليل منهم من يتداوله.
فاسم “شوايا” ليس له دلالة انتماء عرقي، أو ديني..
ابن خلدون.. أممية التوصيف
يقول ابن خلدون في مقدمته “ومن كان معاشه في السائمة مثل الغنم والبقر فهم ظعن في الأغلب لارتياد المسارح والمياه لحيواناتهم، فالتقلب في الأرض أصلح بهم، ويسمون شاوية، ومعناه القائمون على الشاه والبقر، ولا يبعدون في القفر لفقدان المسارح الطيبة”، ويمايز ابن خالدون “الشوايا” هم عن البدو بكونهم يعملون في تربية الإبل.
وقد راح البعض وبنتيجة لمقدمة ابن خلدون لاعتبار كل سكان المناطق القريبة من الأنهار والذين يعملون بتربية الأغنام بـ “الشوايا”، وبتخصيص سورية أطلق المسمى على كل سكان حوض الفرات من جرابلس عند الحدود التركية وحتى البوكمال على الحدود العراقية، لكن هذا يتناقض وواقع الحال عند كل من البدو والشوايا، فالبدو ومنذ بداية حياتهم القائمة على الترحال بحثاً عن المراعي، يربّون الشياه (الأغنام والماعز)، وهم وإن كانوا يربّون قطعان من الجِمال والخيل العربي، فإنهم لم يستغنوا أبداً عن تربية الأغنام حتى يومنا هذا، كما أن سكان المناطق القريبة من الأنهار لم يكتفوا بتربية الأغنام، فهم يمتلكون قطعاناً من الجمال والخيل العربية أيضاً حتى الآن، ما يعني أن التسمية وفق ما ذكره ابن خلدون مايزت بين الفريقين لكثرة ما يربّوه وليس من باب الانفراد، وعليه هي ليست تسمية جامعة أو ملائمة للواقع المعاش في يومنا هذا.
إن فرضية ابن خلدون وفقاً لتوصيفه إن صحّ، يجب أن تكون شاملة لكل العرب، فسكان الريف المغاربي الذين يعملون بتربية المواشي، سيكونون مثل أقرانهم في اليمن والجزيرة العربية والعراق “شوايا”، وعليه فإن ما عناه مؤسس علم الاجتماع يمكن أن يطبّق على سكان أحواض الأنهار في الصين والهند وأمريكا اللاتينية، ولا ينحصر في المنطقة العربية، وبالتالي لن يكون الاسم مختصاً بشريحة مجتمعية تسكن شمال شرق سورية، وعليه فإن الاستناد لمقدمة ابن خلدون في التسمية التي تختص بالقبائل السورية ليست مسألة دقيقة.
المرجع الأقدم
تقول بعض المصادر التاريخية أن المسمى ظهر أول مرة في اللغتين الآشورية والسريانية القديمتين، إذ كان سكان الممالك القديمة يطلقون على سكان حوض الفرات لفظ “شاويو”، ومعناه “الكريم والمضياف”، لكن حصر ربط صفة الكرم بشريحة من القبائل العربية سينسف مضرب المثل العربي في الكرم في حكاية “حاتم الطائي”، الذي كان بدوياً وتحولت قبيلته “طيء”، بجزء كبير منها إلى الحالة المدنية حينما أصبح غالبيتها من الحضر الذين سكنوا القرى والمدن الكبرى (أكبر انتشار لها جنوب شرق مدينة القامشلي)، وستختص واحدة من سمات الشخصية العربية بشريحة ضيقة من القبائل على حساب ما يروى عن كرم البدو وقبائل الجزيرة العربية، وعليه فإن صح تاريخياً أن هذا اللفظ السرياني والآشوري أطلق على سكان حوض الفرات، فلكونهم كانوا الجيران الأقرب من القبائل العربية، وهو ليس تخصيصاً لهم، وإنما توصيفاً لشريحة مجتمعية جاورت الممالك الآشورية دون دراية من سكان هذه الممالك بحال بقية المجتمع العربي، كما أنه لفظ تعميم.
الشاوي دمشقي أم كويتي؟
ثمة مهنة قديمة في دمشق والمدن السورية الكبرى تعرف باسم “الشاوي”، وكان ممتهنها يقوم بالإشراف على نظافة قنوات الري ونقل مياه الشرب من نهر بردى إلى المنازل، والشاوي في منطقة عمله هو بمثابة ضابط الأمن المائي للمنازل والحقول الزراعية، وكان من مهامه أن ينظم عمل قنوات الري وكميات التدفق وأوقاته، ويمنع مرور أوراق الأشجار والأوساخ في قساطل المياه الواصلة للمنازل. وكان من فضل زيارات البدو إلى دمشق للتبضع والتجارة، أن تعرّفوا على مهنة الشاوي، ولكون البدو وحتى يومنا هذا يشعرون بشيء من التفوق على سكان القرى من القبائل لكونهم حافظوا على عاداتهم المجتمعية في مقابل تحول سكان حوض الفرات والجزيرة إلى الزراعة، أن سمحوا لأنفسهم بإطلاق مسمى “شاوي”، على المشتغلين بالزراعة لكونهم يقومون بفعل السقاية المشابه والمطابق لعمل الشاوي الدمشقي، من حيث شق قنوات الري والحفاظ على تدفق الماء إلى الحقول، لكن هذا التفسير ضعيف السند، فلا يمكن حصر مهن سكان الريف بالزراعة، فمنهم من يعتمد بشكل أساسي على تربية المواشي وتجارتها، إضافة لفرض المدنية لوجود مهن أخرى تعلموها من سكان المدن لضرورتها في حياتهم اليومية.
وهناك من يرجع المسمى إلى أصل استخدام كلمة “شاوي”، في الكويت، وهو الشخص الذي يقوم برعي مواشٍ لا يملكها مقابل أجر متفق عليه مع المالكين، لكن المسمى يجانب الصواب أيضاً لذات الأسباب التي تنفي احتمالية إعادة المسمى لـ “الشاوي الدمشقي”، فمن غير المنطقي تعميم مسمى مهني محدود على شريحة مجتمعية واسعة تسكن ما يقارب ثلث الأراضي السورية.
منطق وعاطفة
تشير بعض المراجع التاريخية إلى أن القائد الفرنسي للحملة الفرنسية التي دخلت مدينة “دير الزور”، وكانت قواتها مؤلفة من حوالي 300 مقاتل، كان يتدخل بشؤون المنطقة وبدأ بالتضييق على سكانها، ونتيجة لعدة أسباب تحرّك مجموعة من الثوار المتحدرين من قبيلة “العنابزة” و “البوخابور”، لمهاجمة المطار العسكري واقتحامه، قبل تمكنهم من قتل قائد الحملة وإحراق عدة طائرات فرنسية، ثم التوجه نحو قلب المدينة لاقتحام المراكز التي يسيطر عليها الفرنسيون
وحسب المصادر التاريخية فإن ثورة العشائر انطلقت ليل 16 أيلول من العام 1921، ويعد أول تحرك عسكري ضد الاحتلال الفرنسي بعد معركة ميسلون، وتسببت هذه الليلة بدفع الفرنسيين لإرسال حملة ضخمة من حلب تضمنت كتائب من السنغاليين والجزائرين المجندين في صفوفها، ونتيجة لشراسة النيران التي أُطلقت على بعض القرى، لجأ الثوار إلى معارك يمكن وصفها بالاستنزاف، وقد كانت هذه المعارك سبباً لإطلاق وصف “شاوي”، من قبل جند القوات الفرنسية على الثوار مشبيهن إياهم بمقاتلي قبيلة “الشاوية”، الذين كانوا قد واجهوهم في الجزائر، والوصف كان نتيجة للملابس التي يرتديها الثوار أو لطريقة القتال والإغارات البرية التي نفذوها آنذاك، وقد كان احتكاك سكان المدينة بالمجندين فرنسياً من عرب وسنغاليين سبباً في التقاط التوصيف (شاوي – شاوية – شوايا).
يقول أحد معمري ريف دير الزور الشرقي خلال حديثه لـ “صالون سوريا”، في البوكمال هناك منطقة تعرف باسم “قبور الانكليز”، وفي “خشام”، الواقعة شرق الفرات هناك أرض تعرف باسم “قبور السنغاليين”، وهي منطقة دَفن فيها الثوار قتلى الاحتلال الفرنسي من السنغاليين (وهو توصيف لكل أصحاب البشرة الداكنة الذين كانوا ضمن صفوف القوات الفرنسية بغض النظر عن جنسيتهم الأصلية)، ويشرح أبو محمد بأن اسم “شوايا” لم يكن يطلق على كل أبناء العشائر، حتى يمكن القول أن أبناء العشيرة الواحدة ليسوا كلهم شوايا، لقد كان توصيفاً أطلقه الفرنسيون، والتقطه السكان لاحقاً وبدؤوا بتداوله، ثم أخذوا بتعميمه على سكان الريف عموماً حتى ممن لم يشتركوا في القتال آنذاك، وورثه أبناء الريف”.
بالمقاربة يبدو أن هذا السبب أو الجذر التاريخي أقرب للمنطق في أصل التسمية المقرونة بسكان مناطق ريف “دير الزور: ومن ثم “الحسكة” و”الرقة”، ولعله الأقرب للعاطفة الجمعية لأبناء المنطقة أيضاً، لكن التنميط الذي لاحق الـ” شوايا”، من قبيل التخلف المجتمعي وعدم الاهتمام بالنظافة الشخصية، والعادات البالية وصولاً لوصفهم بممارسة الجنس مع الحمير، حوّل لفظ “شوايا”، من إيجابية توصيف الثوار ضد الاحتلال إلى سلبية وسم سكان ثلاث محافظات من سورية بعدد هائل من النمطيات، ما شكّل خطاب كراهية ضدهم، لم يكن ليواجهه سكان المنطقة غالباً إلا بخطاب كراهية مضاد.
شوايا سوريا، محمود عبد اللطيف
نوفمبر 30, 2022 - موقع صالون سوريا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق