تدهور الليرة السوريّة: عوامل محليّة ولبنانيّة ودوليّة


تدهور الليرة السوريّة: عوامل محليّة ولبنانيّة ودوليّة
عادت إلى الواجهة مسألة التراجع في قيمة الليرة السورية. يمثّل هذا التراجع في قيمة العملة المحليّة أحد أهم العوامل التي أسهمت في الواقع الاجتماعي - الاقتصادي الأليم الذي يعيشه السوريون اليوم. فقد أدّى إلى التضخّم المفرط ما انعكس بشكل مباشر على قدرة الناس على تحمّل نفقات حاجاتهم الأساسية. ففي عام 2019، بلغت نسبة السوريين الذين يعيشون بأقل من 1.9 دولار يومياً، نحو 40%، كذلك بلغ عدد الذين احتاجوا إلى مساعدات إنسانية نحو 11.7 مليون شخص، وعانى 6.5 ملايين مواطن من انعدام الأمن الغذائي.
شهدت الليرة السورية انخفاضاً كبيراً من قيمتها مقابل الدولار في السنوات الخمس الأولى من الحرب. يعود ذلك بشكل أساسي، إلى عوامل محليّة مرتبطة بالصراع الداخلي، بما في ذلك خسارة عائدات تصدير النفط، والعقوبات الدولية على النظام المصرفي السوري، والعجز التجاري، وتدخّل الحكومة المركزيّة غير الكافي.
إلا أن الانخفاض في قيمة العملة السورية في العامين الماضيين يعود بشكل أساسي إلى عوامل خارجية مثل الأزمة الاقتصادية المستمرة في لبنان، وتطبيق قانون قيصر.
لإلقاء الضوء على أهمية العوامل الخارجية في انخفاض قيمة الليرة السورية الحادّ، يجب التركيز على جولتين مهمتين من هذا الانخفاض:
- الجولة الأولى: بين عامي 2011 و2016، شهدت الليرة السورية خلالها خسارة 714% من قيمتها مقابل الدولار، بمتوسط انخفاض يصل إلى 30 ليرة شهرياً مقابل كل دولار. بعد ذلك استعادت العملة استقراراً دام ثلاث سنوات.
- الجولة الثانية: بدأت في الربع الثالث من عام 2019. فبسبب التداعيات المستمرّة للأزمة الاقتصادية اللبنانية، وقانون قيصر، خسرت الليرة السورية نحو 750% من قيمتها مقابل الدولار خلال سنتين فقط، وهو أكثر مما فقدته في السنوات السبع السابقة لذلك.
عوامل محلية
قبل بداية الأزمة، كانت الاحتياطات السورية بالعملات الأجنبية تعتمد بشكل واسع، على عائدات النفط. إلا أنه بسبب الحرب، فقدت الحكومة السورية السيطرة على حقول وأنابيب النفط، ما أدّى إلى فقدان عائدات البترودولار. كذلك، أدّت القيود التي فُرضت على القطاع المصرفي السوري، إلى عزل السوق المالية للبلاد عن النظام المالي العالمي. عزل النظام المالي السوري، كبح قدرة سوريا على الوصول إلى أسواق العملات الأجنبية.
إضافة إلى ذلك، انخفضت الصادرات السورية نسبة إلى الواردات، ما أدّى إلى عجز في الميزان التجاري بلغ 5.32 مليارات دولار في عام 2019. وأدّت الحاجة إلى العملات الأجنبية لتمويل الاستيراد المتزايد، إلى الضغط على طلب الدولار، ما أسهم في انخفاض قيمة الليرة السورية بشكل حادّ.
فشلت سياسات المصرف المركزي السوري في معالجة انخفاض قيمة الليرة السورية. فقد أغلق المصرف العديد من مكاتب التحويل، ومنح تراخيص لمكاتب تحويل دولية محدّدة بتسليم التعاملات بأسعار تفضيلية لليرة السورية مقابل الدولار. كما حظرت الرئاسة السورية استخدام العملات غير الليرة السورية في السوق المحلية. لكنّ هذه الخطوات لم تحل المشكلة، بل كانت لها مفاعيل آنية في إرساء إحساس مؤقت بالاستقرار.
لعبت التداعيات الاقتصادية الداخلية للحرب السورية دوراً رئيسياً في زعزعة استقرار العملة الوطنية خلال الجولة الأولى من التراجع في قيمة العملة. لكن، فيما استمرّت آثار هذه العوامل الداخلية، نجحت السوق السورية، إلى حدّ ما في التكيّف مع هذه الظروف، فانعكس ذلك استقراراً في قيمة العملة بين عامي 2016 و2019، من دون أن يمنع حصول جولة ثانية من الانخفاض الحادّ في الربع الثالث من عام 2019 مدفوعاً بعوامل خارجية.
ولتحليل الموقف بشكل دقيق، من المهم الأخذ في الاعتبار، التغيّرات الجزئية في تقلّبات أسعار العملة مع الأحداث الجيوسياسية المستمرّة.
الأزمة المالية اللبنانية وقانون قيصر
في أواخر عام 2019، بدأت قيمة الليرة السورية في الانخفاض مجدداً. هذه المرّة، لم تكن الحرب هي السبب، بل الأزمة المالية اللبنانية. في الواقع، كان القطاع المصرفي اللبناني موطناً لأكثر من 40 مليار دولار من الودائع السورية. وكان هذا القطاع هو المورد الوحيد للعملة الأجنبية إلى السوق السورية. وبحسب دراسة للبروفيسور السوري علي كنعان، تؤدّي صعوبة وصول الدولار إلى سوريا عبر المصارف اللبنانية، إلى فقدان 4 ملايين دولار يومياً من تعاملات الدولار في السوق السورية.
ونتيجة لذلك، بدأت السوق السورية تعتمد على الليرة اللبنانية لشراء وتأمين حدّ أدنى من الدولارات لموازنة القيود المفروضة على سحب الودائع السورية من المصارف اللبنانية.
أدّى عدم الاستقرار السياسي في لبنان وديونه الهائلة إلى زيادة الطلب على الدولار الأميركي في بيروت. وبلغ الضغط ذروته بعد احتجاجات 17 تشرين 2019 عندما توقفت المصارف اللبنانية عن السماح للمودعين (جزء كبير منهم من السوريين) بسحب أو شراء الدولار الأميركي. فأدّى ذلك إلى انخفاض العرض الإجمالي للدولار وزيادة الطلب عليه، ما سبّب اضطرابات كبيرة في سعر صرف الليرة اللبنانية الذي كان ثابتاً على مدى 30 عاماً على سعر 1515 ليرة مقابل الدولار.
بسبب انخفاض قيمة الليرة اللبنانية، فقدت الليرة السورية قيمتها مقابل الدولار بمتوسط 100 ليرة شهرياً مقابل كل دولار. وبلغ سعر صرف الليرة السورية 1305 ليرات مقابل الدولار في نيسان 2020، قبل أن تخسر 555 ليرة من قيمتها أمام الدولار بين نيسان وأيار الماضيين، و640 ليرة بعد شهر أيار، ثم قفز سعر الصرف إلى 2500 ليرة سورية للدولار في حزيران الماضي. ورغم أن سعر الصرف اللبناني في السوق السوداء عانى خلال شهرَي أيار وحزيران من عام 2020، كان هناك سبب آخر وراء الانخفاض الحادّ في قيمة العملة السورية. ففي حزيران 2020، بدأ تنفيذ قانون قيصر ما زاد من تدهور الاقتصاد السوري واستنزاف المعروض من العملات الأجنبية في السوق السورية.
مجدّداً، تراجعت قيمة الليرة السورية في تشرين الثاني 2020، ولم يتوقف انحدارها لغاية اليوم. هذا الانخفاض الحادّ من 2630 ليرة سورية للدولار في تشرين الثاني 2020، إلى 4100 ليرة سورية للدولار في الأسبوع الأول من آذار 2021، يؤكد مجدداً التأثير القوي للعوامل الخارجية أو الدولية على انهيار العملة المحلية السورية، كما يؤكّد العلاقة القوية والمسارات المماثلة بين الليرتين اللبنانية والسورية. وبالفعل، خلال الفترة نفسها، بين تشرين الثاني 2020 وآذار 2021، قفزت الليرة اللبنانية من 7850 إلى 12350 ليرة للدولار.
حسين شكر
نُشر هذا المقال على مدونة جامعة LSE
وجريدة الأخبار 26-4-2021

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق