كلمة للشاعر السوري أدونيس في "المؤتمر الدولي السوري من أجل سوريا ديموقراطية ودولة مدنية" 2013





كلمة للشاعر السوري أدونيس في "المؤتمر الدولي السوري من أجل سوريا ديموقراطية ودولة مدنية" 2013

أيها الصديقات، أيها الأصدقاء

نجتمع من أجل سوريّة ديمقراطيّة، و من أجل "دولة مدنيّة" فيها، وفقا ً لموضوع هذا المؤتمر.

السؤال المباشر الذي يفرض نفسه ، في هذا الصدد، هو: هل نؤمن جميعا ً أن الوسيلة جزء لا يتجزأ من الغاية؟

إذا كان الجواب بالإيجاب، و هو ما أفترضه شخصيّا، فإن علينا، أن نعترف بأنّ الوسائل العنفيّة المسلّحة القائمة، اليوم، إنما هي وسائل تتناقض كليّا ً وجوهريا ً مع هذه الغاية. إنها بالأحرى، قضاء على الديمقراطية و المدنية، عدا أنها لا تقيم أيّ وزن لحياة الإنسان و لحقوقه و حرياته، إاضفة إلى أنها تحتقر تاريخه و منجزاته العمرانيّة و الحضاريّة.

و الحق أننا عندما ننظر إلى ما يحدث الآن في سورية، مربوطا ً برمزيتها التاريخية، على المستويين الحضاري والكونيّ، ندرك مباشرة ً كيف أنّ الصراع فيها تحوّل إلى صراع إقليميّ ودوليّ في أنّ، وكأنّ مقصد الجميع يتخطى تهديم النظام إلى تهديم سورية. فسورية، بلد الحضارة و التعدّد، هي مفترق و ملتقى. من الأبجدية التي ابتكرتها وغيّرت وجه الإبداع الحضاري، إلى سلسلة طويلة من المراكز والمنجزات الحضاريّة، إلى الدولة العربية الأولى في دمشق التي أنشأها معاوية وحملت البذور الأولى للثقافة المدنيّة وكانت النواة الأولى للفصل بين الدين والدولة، أو لإعطاء "ما لقيصر لقيصر وما لله لله"، إلى الأندلس التي أسست لكونيّة الثقافة وإنسانيتها، إلى انتصار الشاطئ المتوسطي الشرقيّ على الشاطئ الغربيّ، انتصارا ً عسكريا ً بقيادة صلاح الدين الأيوبيّ، أقول في هذا كله، كانت سورية ولا تزال تمثل التجمع البشري الأكثر قدما ً وغنى وتنوعا ً وانفتاحا ً بين بلدان العالم.

ففيها التقت ولا تزال تلتقي أديان وسلالات قديمة، وتتعايش مع بعضها بعضا ً، ولا يضاهي سورية في صون الجمماعات المتباينة، دينيا ً على الأخصّ، وفي استقبال الهجرات الجماعية للمضطهدين و توطينهم، أيّ بلد ٍ في العالم. ولهذا كانت في جغرافية العالم المشرقيّ المتوسطيّ، العقدة الأكثر استعصاء في استراتيجيات العالم الحديث، سياسة وثقافة واقتصادا ً.

هكذا يبدأ العمل من أجل سوية ديمقراطية ومن أجل دولة مدنية فيها بأن نرفض قطعيا ً تحويل سورية، بحجة تغيير النظام، إلى ساحة لمباريات الفوى الأجنبية الاستعمارية في تدخلها باسم الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، علما ً انّ ثمّة بلدانا ً كثيرة، عربية وغير عربية، أولى بهذا الدفاع. هذا من جهة، ويجب أن نرفض، من جهة ثانية، تحويل سورية، بإسم هذا التغيير أيضاً، إلى ميدان للجهاد الديني تشارك فيه جميع المعسكرات الأصولية الإسلاموية في العالم. كأن سوية بلاد كفر ٍ يجب أن تغزى وأن تفتتح. وهذا عنف عابر للقارات يغرق البلاد في ظلامية القرون الوسطى، ويعمق جذورا ً لا انسانية في تاريخنا، ثقافية واجتماعية وسياسية، خصوصا ً في ما يتعلق بالآخر المختلف، ولا معنى لأي تغيير أو لأية ثورة في سورية إذا لم يكن اقتلاع هذه الجدذور هدفا ً أوّل.

والمسألة العميقة، إذا ً، في سوريا لا تنحصر في مجرد تغيير النظام أو السلطة. فالديكتاتورية ليست مجرد بنية سياسية، إنها اساسيّا ً بنية ثقافيّة، اجتماعيّة، إنها في الرأس، قبل أن تكون في الكرسي. لا بد إذا ً في الثورة، إن كانت حقيقية، من أن يقترن مشروع تغيير السلطة أو النظام السياسي اقترانا ً عضويا ً بمشروع آخر هو تغيير المجتمع سياسيا ً وإداريا ً، ثقافيا ً واجتماعيا ً.
و في أساس هذا التغيير الذي يرتكز جوهريا ً على وحدة الأرض السورية، المساواة الكاملة بين جميع السوريين، في معزل عن الجنس والدين والمنشأ الاجتماعي أو الاثني السلالي. ومعنى ذلك التأسيس علمانيا ً، للديمقراطية، ولمدنية الحياة والدولة والمجتمع، إرساء للتعددية و توطيدا ً لحقوق الإنسان وحرياته، وفي مقدمتها تحرير المرأة من القيود التي تكبلها، فتعيد لها حضورها الإنساني الكامل. ولا تعود مجرّد آلة للحرث والإنجاب، وتؤكد أن الثورة في معناها العميق ليست ذكوريّة، وإنما هي إنسانيّة، ثورة المرأة والرجل معا ً، كأنهما عقل واحد وجسم واحد.

وهذا ما يتيح لسورية الحديثة، أن ترتبط بمنجزات الإنسان الحديث، في ميادين الفكر والعلم والتقنية، وأن تتأصل في الوقت نفسه، في تاريخ حضاري عريق.
إذ ما تكون، مثلا ً، جدوى ثورة في سورية أو في غيرها من البلدان العربية لا تؤسس لولادة الفرد الحر المستقل، سيّد نفسه، وحياته، ومصيره؟ وما جدوى ثورة يحكمها تأويل خاص وسياسي للنصّ الديني، في معزل كامل عن الواقع، وعن الطبيعة، وعن الحياة، عن الثقافة، وعن الإنسان نفسه؟ وما جدوى ثورة تتكلم بلغة غير إنسانيّة، لغة "الأكثرية" و"الأقلية". ولا تلتفت إلى أن المجتمع يقوم على المواطنية الواحدة، لا أكثرية ولا أقلية، بالمعنى العرقي أو اللغوي، بل حصرا ً بالمعنى الديمقراطي المدني، الذي يقوم على الرأي الحر، الفردي، ويتجلى في صناديق الاقتراع.

وما معنى ثورة لا تؤمن بحق الإنسان في أن يكون معتقدة الديني شخصيا ً لا يلزم أحدا ً غيره ولا يخضع لمحاسبة أحد إلا الخالق، وأن يعتقد ما يشاء في الطبيعة وفي ما وراءها، في الثقافة والحياة والموت وغيرها، وأن يفصح عن هذا الإعتقاد بحرية كاملة؟ وما جدوى ثورة لا يصل سقفها الثقافيّ الإنسانيّ إلى أعلى من التسامح؟ ذلك أن في التسامح نوعا ً من العنصرية. أتسامح معك، لأن الحق معي، ولأن الحقيقة هي ما أومن به، لكن أتفضل عليك، وأتيح لك أن تقول رأيك ضمن حدود معينة.

الإنسان لا يريد التسامح. الإنسان يريد المساواة.

المقدمة الأولى للعمل من أجل هذا كله، أيتها الصديقات، أيها الأصدقاء، هي الفصل الكامل بين ما هو ديني، من جهة، وما هو سياسيّ ثقافي اجتماعيّ من جهة ثانية. هذه ألفباء كل ّ ثورة حقيقية.

وفي أساس ذلك، الخروج من جحيم النظام العسكري المستمرّ و المتصاعد، بصيغ مختلفة، منذ 1949، والخروج، تبعا ً لذلك، من الجحيم الأخرى: جحيم العسكرة و إباحة الساحة لكلّ مغامر، والاقتتال المسلّح، والنظرة الواحديّة الشموليّة.

هكذا، لا بدّ من أن يكون التغيير في الأسس. دون ذلك، لا ديمقراطيّة ولا مدنيّة، لا مواطنيّة ولا تعددية، لا حقوق ولا حريات.
ودون ذلك لا يكون التغيير إلّا انتقالا ً من عبوديّة إلى أخرى.
تحيّة عالية إلى الذين هيأوا هذا اللقاء ، وإلى جميع المشاركين فيه.
شكرا ً.

#نعيش_معاً

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق