جوابٌ لصديقٍ في الغرب - الأب الياس زحلاوي





جوابٌ لصديقٍ في الغرب
الأب الياس زحلاوي - 2020/4/5
صديقي،
خلال شهر أيلول من عام 2018، أهديتني الكتاب الجديد للبابا فرنسيس، وهو بعنوان "اسم الله هو الرحمة"، في طبعته الفرنسية، الصادرة عام (2016)، عن دار نشر "روبير لافون".
كنت أعرف أن رسائلي المفتوحة إلى البابا فرنسيس، وكذلك رسائلي إلى سلفَيْه، قد تكون بدت لك غير محقّة بعض الشيء، أو على قدر من المبالغة، مع أني لم أتلقّ يومًا أيّ جواب مباشر من روما.
انصرفتُ إذن إلى مطالعة هذا الكتاب، وثقْ بأنّي فعلت ذلك في تأنٍّ كبير، أملاً منّي باكتناه مضمونه العميق. وللأسف، فقد سبّب لي خيبةً عميقة.
هل يتوجّب عليّ أن أذكّرك بما كنتُ كتبتُ تلقائيّاً، في أسفل الصفحة الأخيرة، بالحبر الأحمر، لحظة أنهيت قراءة الكتاب؟ لقد نقلت ذلك لك على الفور، في الرسالة الإلكترونية، التي كنت أرسلتها لك عندها.
لكم يؤلمني أن أعلن هذا النص، اليوم، على الملأ! فما كان من الممكن أن يخطر ببالي يومًا، أني سأضطرّ للكشف عنه في لحظة ما. ولكني، اليوم، أجدني مضطرًّا للإقدام على ذلك. واعلم جيدًا أني أفعل ذلك بوصفي كاهنًا كاثوليكيًّا. فأنا كاهن، وكاهنٌ في الثامنة والثمانين من العمر، وإذن مرشّح لمغادرة هذه الأرض في أيّة لحظة، وللمثول أمام يسوع، الذي حاولتُ أن أحبَّه وأخدمَه.
إلّا أنّي أرى من الضروري أن أوضّح أنّ البابا فرنسيس، كان قد ختم كتابه بهذه العبارة: "لنتذكّر دائمًا كلمات القديس يوحنا الصليبي: "في مساء حياتنا، سوف نُحاسَب على الحبّ".
فكتبتُ على الفور، في دفعة واحدة:
"أيّ حبّ؟!
"أوَليس التشهير بالظلم الذي بات ممارسة عمومية ويومية في الغرب كلّه، طريقة يُعاش فيها الحب، على نحو أقرب إلى الحقيقة والواقع؟
"ما قرأته في هذا الكتاب يليق بكاهن، ولكنه لا يليق ببابا". (3/10/2018)
إلا أنه يتوجّب عليّ أن أشير إلى أنّ البراءة الأولى، للبابا فرنسيس، التي نشرها عام 2013، وهي بعنوان "فرح الإنجيل"، بدت وكأنها تشكّل التزاماً بالغ الجرأة والحسم، من قبل الكنيسة الكاثوليكية، كي تقاوم أخيراً الظلم المتوحّش، الذي يقضي على المليارات، أجل المليارات من البشر المهمّشين على امتداد الأرض. وقد رأيت من ناحيتي أنها تنبثق من الروح التي أملت على البابا يوحنا بولس الثاني، تصريحاته الأربع والتسعين الشهيرة، الممتدّة على طول حبريّته، بشأن تنقية الكنيسة من ماضيها، وقد وردت كلّها في كتاب مزلزل، وضعه صحفي إيطالي يدعى "لويجي أكاتوللي"، الذي كان صديقًا للبابا نفسه. والكتاب بعنوان "عندما يطلب البابا الغفران". وقد يكون من المفيد أن أشير إلى أنّ هذا الكتاب قد صدر في ثلاث طبعات في آن واحد، عام 1997، باللغات الإيطالية، والإنكليزية، والفرنسية.
وفي عودة إلى براءة البابا فرنسيس، "فرح الإنجيل"، يطيب لي أن أصرّح بأني رأيت فيها، بوصفي كاهناً كاثوليكيًّا، تعبيرًا صريحًا، طال انتظاره، عن التحرّر النهائي من السراب الكارثي، الذي شكّله بالنسبة إلى الكنيسة كلّها، سواء في الشرق أو الغرب، التحالف الوثيق مع السلطة الزمنية، الذي كان قد بدأ مع الإمبراطور قسطنطين منذ عام 313.
ولكم يؤسفني أن أقول إن هذا "الخرق" اللاهوتي، لم يثمر أيّ شيء حتى اليوم! ومع ذلك، فهل يتوجّب على الإنسان أن يكون فاقد البصر، كي لا يرى أنّ العالم كلّه ينزلق يومًا بعد يوم، في هول حروب متعاقبة، أُتقِن تنوّعُها وبرمجتها، ومنها الحرب التي تجاوزت كلّ وصف، التي شُنّت على وطني سورية، من قبل (140) دولة، على رأسها الولايات المتحدة، منذ أكثر من تسع سنوات؟
واعترافًا مني بتفوّق العقل الأميركي "إنسانيًّا" - وهل هناك من شكّ في "إنسانية" الأميركيين؟ - لا بد لي من أن أذكّر بالحصار الاقتصادي المطلق، الذي فُرض على سورية، وعلى غيرها من الدول، وخضع للتمديد حتى في زمان فيروس "كورونا" الكارثي، لا لشيء إلّا لأن سورية بلد "مارق" في نظر الولايات المتحدة.
ويقال ويكتب أنّ البابا يتصرّف بوداعة غير مألوفة، وببساطة تقرّبه من الفقراء واللاجئين الذين "يتاح لهم" الاجتماع به. وهذا أمر جيّد، إلّا أنّ العناوين الخلابة التي ترافق ما ينشر له ولممثّليه في العالم، في صحيفة الفاتيكان الرسمية، لا يمكنها أن تنسيني البتّة، أنه لم يَدِنْ يومًا، لا هو، ولا ممثّلوه، مثيري الحروب، وناشري الهلع والإرهاب، والجوع، والموت في العالم كلّه! وهل يسعه، أو يسع ممثّليه الكثيرين، المنتشرين في دول الأرض، أن يجهلوا أو يتجاهلوا أنّ هذه القوى عينها تريد على الدوام فرض هيمنتها الكلية والنهائية على العالم بأسره، ولو كلّفها ذلك إشعال حرب نووية، من المعروف أنها تواصل الإعداد الحثيث لها، حتى في زمان كورونا هذا، في قلب أوروبا، ولا سيما في إيطاليا؟
ترى، لو كان المسيح محلّه، هل كان هادنَ هذه القوى، كما يفعل البابا فرنسيس على نحو دائم، وكما فعل من قبله أسلافه الكثيرون؟
ولا نَنْسَينَّ أن البابا، يمثّل السيد المسيح، ولا يسعه أن يكون سوى ممثّل السيد المسيح! وإنّ له في ذلك كرامة، لا تعدلها كرامة على الأرض! فما الذي ينتظره؟ وما الذي يخشاه؟
والحقيقة الكبرى التي لا يحقّ لأحد أن ينساها، أو يتناساها، هي أنّ المسيح قد تماهى على نحو كلّيّ ونهائيّ، مع كلّ إنسان، ولا سيما الإنسان المعذّب! وما أكثر الذين يعانون اليوم من ظلم، ومن جوع، ومن برد، ومن مرض، باختصار، من كل ما يمسّ كرامتهم، وحريتهم، بل حياتهم! وهل من يجهل أنّ هؤلاء الناس، كانوا في ما مضى، وما زالوا الغالبية العظمى من البشر؟
أعود فأقول، ما الذي ينتظره البابا، كي يهبّ للدفاع عن المسيح المعذّب في جميع المعذّبين؟ أوليس هو ممثّل يسوع، الذي تقبّل الصلب، لا لشيء إلا لأنه نطق بالحق في شأن الله والإنسان؟
أويكون هيكل القدس، الذي طَردَ منه يسوع، يسوع "الوديع والمتواضع القلب"، التجّار بعنف وغضب، أكثر قدسيّة من هيكل البشرية؟ فما الذي يحول دون إدانة البابا القوية، باسم يسوع عينه، للسياسيّين الذين يدمّرون البشرية والأرض في آن واحد؟
صديقي،
ثقْ بأنّ كل هذا، وسواه الكثير، جعلني إبان أمسية الصلاة التي أقامها البابا منفردًا، مساء 27/3/2020، في باحة القديس بطرس، أتوقّع حدثًا غير مسبوق، يُقدم عليه البابا فرنسيس. لقد توقّعت له أن ينتفض انتفاضة نبيّ، يقف وحده بملء قامته الروحيّة، أمام الله والبشريّة جمعاء، التي كانت عيونها مسمّرةً عليه، وقد استبدّ بها الهلع من الموت الماثل في فيروس كورونا!
في نظري، إنها المرة الأولى في التاريخ، التي يقف فيها بابا روما موقفًا كهذا، موقفًا كان بوسعه أن يتحرّر فيه من كلّ ضغط داخلي مؤسّساتي، أو خارجي سياسيّ، كي يتصرّف تصرّفًا ينبع من كونه ممثّلاً للسيد المسيح، الحاضر حقًّا في مليارات البشر المعذّبين في الأرض، ويعلن فيه تماهيه الكلي معهم أسوةً بمعلّمه يسوع!
وتوقّعت أيضًا له، في هذه الأمسية، أن يعلن على وجه الدنيا، تصميمه على أن يفصل نهائيًّا ماضي الكنيسة، المليء بالتواطؤات مع القوى السياسية والمالية، عن حاضرٍ ومستقبلٍ، يريد لهما أن يكونا حقًّا ودائمًا، في خدمة جميع الناس، ولا سيما المعذّبين!
لكم كان محقًّا، ذلك القدّيس السوري الشهير، إيريناوس، الذي كان في القرن الثاني، أسقفًا على مدينة "لوكدونوم" في بلاد الغال، وهي فرنسا اليوم، عندما قال كلمته الشهيرة: "مجد الله هو الإنسان الحيّ!".
صديقي،
أجل، كنت أتوقّع في حبي وسذاجتي، مثل هذه الانتفاضة النبويّة! ويؤسفني أن أعترف لك أن هذه اللحظة "التاريخية"، من الصلاة في باحة القديس بطرس، كانت بالنسبة إلي، إحدى أكثر اللحظات بؤسًا في تاريخ المسيحية.
صديقي،
بعد أسبوع، نحتفل بقيامة المسيح!
تُرى، متى سنحتفل بقيامة كنيسته؟
الأب الياس زحلاوي
دمشق 5/4/2020

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق