خلاصاُ جماعيّاً هذه المرّة!





خلاصاُ جماعيّاً هذه المرّة!


فجأة تغيّر كُلّ شيء، وجدنا أنفسنا للمرة الأولى منذ سنوات جزءاً من هذا العالم..


تمرّ بلدي سورية بظروف معقّدة سياسياً وأمنياً منذ عقد تقريباً، يمكنكم تسميتها حرب، يبدو هذا مألوفاً للجميع، لكن الحلقة الناقصة هي أنّ هذه الحرب ليست بين السوريين بشكل أساسي كما يروّج له، بل بين دول وكتل مختلفة تتصارع وتستخدم الأطراف المحليّة سياسيّاً، لهذا منذ عقد تقريباً أغلق العالم في وجهنا حدوده، أغلق خدماته، مطاراته، سفاراته، أغرقنا بالعقوبات، عقوبات على كُلّ شيء، لقد أوهمت الدول الكبرى الجميع أنّ هذه العقوبات تستهدف الحكومة وأجهزتها، وهذا بالتاكيد خرافة بشعة لأن كُل سوري يعاني اليوم من هذه العقوبات الجماعية أكثر مما يعاني من تفاعلات الحرب الدائرة من حوله في سورية.

اذا ما العمل؟ لقد احترف السوريون خلال العقد الماضي استخدام برامج الاحتيال المكاني تقنياً ليتمكنوا من الولوج لبعض الخدمات على الانترنت، منها أن يتواصلوا مع عائلاتهم في المخيمات والدول المختلفة، للاشتراك في خدمات مشاهدة أفلام ومسلسلات، لحضور دورات تعليمية مجانية ومتاحة وأخرى مدفوعة، لبدء حسابات على بعض مواقع التواصل الاجتماعي، ومئات الخدمات المعطّلة!

أيضاً جمع السوريون جوازات السفر في كل عائلة وأودعوها في دُرج مقفل، لاسفر ولا تأشيرات دخول، عليك أن تقطع الحدود إلى دولة أخرى لتتقدم بطلب طويل من عشرات الأوراق الثبوتية والتعجيزية لأخذ تأشيرة، وبعد أسابيع تأتي مع الرفض، رغم أنّك تدفع الرسوم الغير مرتجعة والتي تساوي راتب شهر عمل في سورية، هل أخبرتكم أن عملتنا تداعت قيمتها أمام العملات الأجنبيّة لحوالي ثلاثين ضعفاً؟

سوريون أيضاً فرّوا إلى بلاد الله الواسعة، ركبوا البحر وآخرين غرقوا فيه وكُثرٌ ضاعوا في الغابات حتى وصلوا إلى أوروبا، أوروبا الجميلة. لاشكّ أنها استقبلت مئات الآلاف من اللاجئين، الذين باعوا أصولهم العقارية أو استدانوا مبالغ طائلة ليودعوها جيوب المهربين، ولكنها استقبلت المئات فقط على متن طائرات بطريقة إنسانيّة وهذا شيء غير مفهوم، لماذا تصرّ أوروبا على أن يقطع الملايين رحلة الذل والقهر؟ لماذا تدفع الملايين كمساعادت اغاثيّة وتمنع السوريين والأوروبيين على السواء من العمل لتحريك الدورة الإقتصادية في سورية!

كوفيد 19، كان الوباء ينتشر في دول العالم المختلفة، في البداية كان بعيداً جدّاً حتى أنّ البعض رأوه ابتلاءاً من الله لتلك الشعوب، آخرون راوه أزمة عابرة ستُحلُّ قبل أن تصل إلينا، فكلّ شيء يصل لنا متأخراً، إن وصل. لكن الأمور بدأت تزداد سوءاً وشاهدتُ صديقتي مثلاً تذرفُ الدموع لأن الناس بدأت تموت بالفعل وبدأ هذا يُشكل أزمة عابرة للحدود، ولا أدري سبب بكائها لكنه أحد أمرين أو كلاهما معاً، الخوف على الناس والخوف من الفايروس.

قد يبدو هذا مستهجناً لكننا لأول مرّة شعرنا بأننا جزء من هذا العالم، هذا العالم الذي أغلق كّلّ شيء على الملايين في داخل سورية صار قريباً جداً، وصار مأزوماً مثلنا. هل يحملُ هذا أي نوع من الشماتة؟ بالتأكيد لا، وهذا الطرح مرفوض أصلاً لان الفايروس لايعرفُ أحداً، فكيف بنا نراه يقتل الآلاف من الأبرياء في كلّ مكان، وكيف بنا نراهُ يقتل الشعوب الطيّبة ولايقتل حكامها الذي أودعونا سجناً اجباريّاً!

نعم ليس لدينا أنظمة طوارئ متقدمة، وليس لدينا إمكانيات للبقاء على هذا المنوال، لكننا عشنا ونعيش حرباً مستمرّة ولهذا فإن الفايروس بالنسبة إلينا فصل جديد من رواية المأساة السورية وليس بداية جديدة، الفرق أننا نعيش التجربة منذ عقد والعالم يعيشها منذ شهر.

لنكن واقعيين لسنا قادرين على استشراف السيناريوهات القادمة، كُل شيء يبدو ضبابياً والجميع قلق، لقد أغلقنا معظم الدوائر الحكومية والتي تضمُّ جيوشاً بيروقراطية تعمل بطاقة مستنزفة، لقد جهزنا المشافي بما بقي من تجهيزات طبيّة، أصلحنا تجهيزات واستوردنا أخرى رديئة من دول مازالت ترانا ننتمي لفصيلتها الإنسانيّة، يأتيك أحد المسؤولين الأوروبيين هنا ليقول لاعقوبات على القطاع الصحي، إنه كلام مُتلاعب به، فكيف نشتري وحسابات الوزارات مجمّدة والعقوبات تنال كلّ العمليات المصرفية والتحويلات، وتنال المتعاملين في سورية حتى من الجنسيات الأخرى؟ هذه تفاصيل مؤرّقة كيف نشرحها للناس حول العالم؟ كيف نقولُ لهم أننا تعبنا بقدر ما أرادونا أن نتعب، واكتفينا!

نحنُ أحياء حتى اللحظة، ونحن متعاطفين مع كل الناس كما نحن حزينن لأجل أنفسنا، لأجلنا جميعاً من بقي ومن مات ومن تغرّب، لقد أعادنا كوفيد 19 لنشعر من جديد بمعاناة عالمية، بعد عقد من المعاناة الفردية، وكما نتمنّى خلاصاُ فرديّاً من الحروب على أرضنا فإننا نتمنّاهُ خلاصاُ جماعيّاً لكل البشريّة من الفايروس ومن تأثيراته التي إن أصابت الدول المتقدمة بهذا الشكل فما بالكم بما أصابتنا به من تعطّل وخسائر؟

نحن نستمع إلى الأخبار باستمرار، متى ما جاءت الكهرباء التي تنقطع وقتاً طويلاً بسبب العقوبات المفروضة على استيراد المحروقات اللازمة لتشغيلها، نحن نتابعكم على الانترنت الرديء لأنّ السرعة في بلادنا محدودة جداً، نحن نفرحُ لأنكم تكملون تعليمكم وأعمالكم عبر الانترنت، نحن مازلنا نحاول ان نفعل ذلك وقد لاننجح، سعيدون لانكم تستطيعون تحريك حساباتكم البنكية ويمكنكم طلب الإحتياجات عبر الانترنت، نحن مازلنا أبعد بكثير عن هذا، فبينما أنتم من عشر سنوات تبتكرون وتحسنون هذه الأمور نحنا كُنا نهرب من الموت، من بلدة لأخرى ومن شارع لآخر.

نُحبّك أيّها العالم، وننتظر خلاصاُ جماعيّاً مشتركاً يُعيدك إلينا ويُعيدنا إليك

وسيم السخلة – نيسان 2020

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق