كتبت الأديبة ناديا خوست: صناعة التصحر
لظى مستمر لم نألف مثله! ألأن حضارة الاستهلاك غيرت مناخ العالم، أم نحن أيضاً مسؤولون عنه؟ لأننا دمرنا مساحات شاسعة من طوقنا الأخضر. فقدنا خلال حياتنا، بساتين النيربين، وبساتين المالكي وغرب المالكي، وبساتين كفر سوسة، وبساتين المزة، وحواكير الصبار، وبساتين داريا.
ونصبت مخالفات 86 في مكان غابة من الصنوبر. ذهبنا في تسعينيات القرن الماضي، لجنةً من أعضاء مجلس محافظة دمشق برفقة نائب المحافظ السيد منذر كركوتلي إلى بساتين كفر سوسة، لنبيّن أنها أرض خضراء تنتج الثمار والخضار، وتهَب الرطوبة وتنقي الهواء، لا يجوز فيها تنفيذ مخطط ايكوشار بإغراء التنظيم وفظاظة الاستملاك. فلجأ السماسرة إلى طلاس. فرفع سوراً حجبها عن المارين، وأجلي المنتجون، ووزعت المقاسم لتجار العقارات. وكنا قد فقدنا بساتين العدوي الممتدة إلى القابون، وبساتين الصالحية الممتدة إلى قاسيون.
لم تكن الغوطة في الكتب التاريخية، فقط، غابات من الأشجار المثمرة، من أعاجيب الدنيا. بل كانت كذلك في ذاكرتنا بسيارين أيام الجمعة. رعى اجتياحها بالمخالفات محافظ الريف، وتبددت الصرخات التي حذّرت من خطر تدميرها على الأمن الغذائي والمناخ. فأصبحت دمشق المنتجة تعيش على ما تزرعه المحافظات السورية. وحُشيت المؤسسات بالموظفين. زيّن ذلك الخطأ وهْم "دمشق الكبرى"، بالرغم من تأكيد السيد رضا مرتضى، المسؤول عن مياه الفيجة يومذاك، أن حوض دمشق محدود. وما يجب: الخدمات والرعاية للمحافظات الشمالية التي تنتج القمح والقطن.
منذ أيام، لامست حرستا. ولو كنت دون الدليل لتهت في صحرائها. رأيت مكان الغوطة القديمة الخضراء مدى من أبنية إسمنتية زادها قبحاً دمار الحرب. فتذكرت أني قرأت مرة عن مشروع شرير لتجريد الفلسطينيين من أرضهم الزراعية وحبسهم في معازل إسمنتية.
عدت من صحراء حرستا كمن فقد الرغبة بالحياة. وبدا لي أن استخدام من يسكن تلك الأبنية البشعة، سهل في الحروب، لأن الجدب والقبح يربي الشعور بالغبن والحقد. لذلك لا يبرّأ من النية الشريرة من يرعى المخالفات.
مع ذلك، لا ينجز تصحير غوطة شاسعة بسهولة. وقد ذكر اتحاد الفلاحين مرة أن خمس عشرة مليون شجرة مثمرة قطعت من الغوطة. فلماذا استمر جز الأشجار، وقتل الأرض الزراعية الثمينة، وتدمير شبكتها المائية الفريدة، ولم نسمع صرخة مدوية في مجلس الشعب، ولم تجتمع الأحزاب لتمنع ذلك الخراب؟
هل تغطّت تلك الجريمة، أو ذلك الانتحار، بتحديث الريف؟ بالأقواس التي تنصب في مداخل البلدات؟ بأنها واكبت كسر الهوية المعمارية الذي أسسه مخطط ايكوشار لوضع مدينة دون ذاكرة، بديلة عن دمشق؟ لا يمكن أن نفحص ذلك دون علاقته بالهوية الوطنية، والإنتاج الزراعي، والأمن الغذائي، والاستيراد. فأمامنا نَهم العدو في سرقة الأرض والمياه العربية، وزهو الغرب بكرومه وحقوله.
روى لي مرة السيد خالد معاذ، مؤرخ دمشق الغيور، أن أحد المسؤولين في محافظة دمشق أمر بقطع أشجار شارع النصر، ورحل إلى أمريكا. واليوم تُظهر الصور القديمة المنشورة أن ذلك الشارع كان خميلة خضراء للمشاة. كان شارع حلب، أيضاً، بين صفين من أشجار الحور، فهل هو نفسه الذي أمر بقطعها؟
أمس، كشف إخوتنا اليمنيون شبكة تجسس عمرها ربع قرن، اجتهدت لتخريب الاقتصاد والتربية والزراعة. فهل سنكتشف شبكة مثلها عملت لتدمير الأرض الزراعية والهوية المعمارية، ظهر جزؤها السياسي فقط في الحرب؟
من يجهل أن الشجرة مظلة الإنسان، تنقّي له الهواء، تطعمه، ترقّق طباعه، وتبهجه. بعد إنذار موجة اللظى، يفترض أن نغير نهج "بَعدي ما ينبت حشيش": بدلاً من حفر أنفاق السيارة، وقص الأرصفة لها، يفترض اعتماد مواصلات عامة مريحة، وزرع مئات الآلاف من الأشجار في الفراغات الباقية والشوارع. حديقة الطلائع في المزة، التي تجفف أشجارها قصداً، يمكن أن تصبح غابة مبهجة.
أما حرستا فيمكن لها استعارة تجربة ألمانيا: جُمعت في برلين أنقاض الحرب تلاً مدّت فوقه حديقة ذات أشجار!
ناديا خوست 22/6/2024
عبر صفحتها العامّة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق