لِمَ المَشرِق؟

 

لِمَ المَشرِق؟
إنّ الإجابة على ما في هذا العنوان من استفزاز، لا تحتاج إلى أيّ نوع من البحث، لا في التاريخ، ولا في العلوم، ولا في الفلسفة، ولا في اللاهوت، ولا حتى في السياسة…
حسبُنا التذكير بوقائع خمس، هي مفاتيح، لها من الدِّقة بقدر ما لها من الصِّحّة، وقد لازمت، منذ أربعة آلاف عام حتى اليوم، تاريخَ هذا المشرق، الذي بات يُعرف باسم عموميّ، هو سورية الكبرى.
وإنّ مجرّد التذكير بهذه الوقائع، لَيشكّل على نحو مطلق الوضوح في نظر كلّ إنسان نزيه، الجوابَ الوحيد والضروريّ على الأوضاع الكارثيّة التي تهدّد دون أدنى شكّ، بقاءَ كوكبِنا الرائع!
أولاها اختراع الأبجدية، ولقد كانت بحقّ معجزة إنسانيّة، بغض النظر عن منشئها، فينيقيا أو أوغاريت!
لقد كانت، على مستوى البشرية كلّها، مصدراً متجدّداً لكلّ فكر، ولكل كلمة، ولكل حوار، وكتابة وعلاقة، ومن ثمّ لكل حبّ وتعاون، وبالأخصّ لكلّ "أبجدية جديدة محلّيّة"…
واليوم، إزاء ظاهرتَي التعميم والتطبيع، المتفاقمتين، لكل كذب وتزوير، وبغضاء وشيطنة، وكذلك لشهوة القتل والعدمية، على نطاق العالم كله، باتت أكثر من ملحّة وحيويّة، ضرورة بعث زخم جبّار ومتجدّد، من المحبّة والحرّيّة والكرامة، على نطاق العالم بأسره!
ثانيتها: قانون حمورابي، ملك بابل - عام (1792-1750) قبل المسيح.
اليوم، أكثر من أيّ وقت مضى، يعاني العالم كلّه، على نحو سافر، من الغياب الفعليّ والجذريّ لقوانين عموميّة، يأخذ بها الجميع، ويتقيّد بها الجميع!
وإنّ الإبادة الجماعيّة، التي ترتكبها إسرائيل، على مرأى ومسمع من العالم كلّه، وهي تأتي في أعقاب إبادة جماعيّة أخرى، أكثر اتّساعاً، نظمتها (140) دولة، على رأسها الولايات المتحدة الأميركية، وسُمّيت في سخرية، "الربيع العربيّ"، ضدّ سورية، منذ منتصف شهر آذار من عام (2011). أقول إنّ هذه الإبادة الجماعيّة قد عرّت على نحو كلّيّ، الاستبداد المفترس واللئيم، الذي يمارسه مَن يمتلكون السلطة في هذا العالم.
ولقد بات اليوم في غاية الضرورة، ودون المزيد من التأخير، اعتماد قوانين تسوس في كرامة ونزاهة، العلاقات بين جميع الشعوب دون استثناء! وإنّ في ذلك شرطاً لا غنى عنه لكلّ حياة إنسانيّة كريمة، على مستوى العالم…
ثالثتها: وجود يسوع المسيح في فلسطين، قبل ألفي عام.
حسبي، في هذا الشأن، إبراز ملمَحَيْن وجيزَيْن جدّاً، ليس إلا:
1) الملمح المُشرق:
ثمّة إجماع بأنّ يسوع المسيح شخصيّة تاريخيّة، فريدة ومتوهّجة من حيث حياته وتعليمه.
وهو يرى أنّ الله محبّة…
وإنّ البشريّة كلّها، الحاضرة، والماضية، والآتية، إنما هي عائلة الله على الأرض…
وإنّ الكنيسة التي أسّسها، هي مجموع أبناء وبنات الله، حيث يكون الكبير خادماً للجميع، اقتداءً منه بالمسيح…
ولقد انتهى الأمر بالمسيحيّين، اعتماداً منهم على إيمانهم وحبّهم الشامل فقط، إلى اكتساب الشعوب، وقهر مضطهديهم، من رومان ويهود على السواء.
كما انتهى الأمر أيضاً بالإمبراطور البيزنطيّ قسطنطين، إلى الاعتراف للمسيحيّين عام (313)، بحقّهم في العيش بسلام في ربوع الإمبراطوريّة كلّها…
2) الملمح القاتم:
من المسلّم به أنّ الكنيسة، بدءاً من عام (313)، قد تحوّلت، شيئاً فشيئاً، إلى مؤسّسة، وأنّها، ككلّ مؤسّسة، قد انزلقت، طوال قرون وقرون، في متاهات السلطة، والمال، والرفاه، والاكتفاء الذاتيّ، والكبرياء، والاستبداد، والسياسة… الخ… وعلى الأخصّ في اللاساميّة، منذ ذلك الحين حتى منتصف القرن العشرين…
وقد حدث أنّ هذه الكنيسة كلّها، وعلى رأسها الڤاتيكان، قد انتهى بها الأمر إلى أن فتكت بها عقدة ذنب هائلة ومَرَضيّة، حيال اليهود عامّة، ودولة إسرائيل خاصّة… حتى إنّ هولَ ما حدث في فلسطين عامّة، منذ (75) عاماً، وفي غزّة خاصة منذ (7) تشرين الأول/ أكتوبر عام (2023)، لم يستطع أن يحرّرها من صمتها الشبيه بصمت القبور!
كلّ ذلك، في حين أنّ ما يتوجّب على الكنيسة هو ألّا تكون سوى صوت المسيح وحضوره، إذ إنّ هذا هو مبرّر وجودها الأوحد!
رابعتها: ظهور الإسلام في القرن السابع.
لا يعنيني اليوم من ظاهرة الإسلام الضخمة، سوى هذا النمط من العيش المشترك، الإسلامي- المسيحي، الذي كان الإسلام وحدَه ضمن جميع الفاتحين الذين عرفهم التاريخ، مبدعه الاستثنائيّ، منذ لحظة دخوله دمشق، عام (635). ولقد امتدّ هذا العيش المشترك إلى مدينة القدس، منذ فتحها عام (639)، وإلى مصر عام (641)، ولا سيما إلى الأندلس، منذ عام (711)، حتى عام (1492)، حيث تعايش معاً المسلمون والمسيحيّون واليهود.
ولا بدّ من التذكير بأنّ الأمور سرت على هذا النحو، طوال قرون وقرون، في العالم العربي والإسلامي، على الرغم من تقلّبات التاريخ، وبعض التجاوزات هنا أو هناك، حتى ظهور الحركة الصهيونيّة…
فما الذي يسوّغ اليوم التصميم على جعل الإسلام "طاغوت" العصور الحديثة، انطلاقاً من "الجهاديّين" المزعومين، الذين اصطنعتهم بالكامل أجهزة المخابرات الأنغلوسَكسونيّة والغربية، هذه الأجهزة إيّاها، التي تتحكّم بها الصهيونيّة العالميّة، وتموّلها، وتوجّهها وترعاها على نحو فاضح؟
خامستها: ظاهرة الصوفانية في دمشق، العاصمة السورية.
إنّ هذه الظاهرة ليست سوى اقتحام، ما كان لأحد أن يتوقّعه، قامت به السيّدة العذراء، وقام به السيّد المسيح، في مجمل كنائس عربيّة مفكّكة، تعيش في مجتمع عربيّ، ذي غالبيّة ساحقة مسلمة.
إنّ هذه الواقعة في حدّ ذاتها، تشكّل دون أدنى شكّ، حدثاً غير مسبوق في العالم العربيّ والإسلاميّ.
حسبي اليوم أن أستشهد بهذه أو تلك، من بعض الرسائل التي أدلت بها أوّلاً السيّدة العذراء، ثم السيّد المسيح.
هي ذي إذن ثلاث من رسائل السيّدة العذراء:
1- بتاريخ 18/12/1982، في دمشق:
« أبنائي، اُذكروا اللهَ لأنَّ اللهَ معَنا.
أنتُم تعرفونَ كلَّ شيءٍ، ولا تعرفونَ شيئًا… »
2- بتاريخ 4/11/1983، في دمشق:
« …
قلبي احترق على ابني الوحيد،
ما رح يحترق على كل أولادي »
3- بتاريخ 15/8/1990، في بلدة براسكات ببلجيكا:
« أبنائي،
صَلّوا من أجلِ السلامِ، وخصوصًا في الشّرقِ،
لأنّكم كُلَّكم إخوةٌ في المسيحِ. »
وهي ذي أيضاً ثلاث رسائل من رسائل السيّد المسيح:
1- بتاريخ 31/5/1984، في دمشق:
« ابنتي، أنا البداية والنهاية.
أنا الحقّ والحريّة والسلام… »
2- بتاريخ 10/4/2004، في دمشق:
« وَصيَّتي الأخيرةُ لكُم:
اِرجِعُوا كلُّ واحدٍ إلى بيتِه،
ولكنْ اِحملوا الشَّرقَ في قُلوبِكم.
مِن هنا انبثقَ نورٌ من جديدٍ، أنتم شُعاعُه،
لعالمٍ أغوَتْه المادّةُ والشّهوةُ والشّهرة،
حتّى كادَ أن يفقِدَ القيمَ.
أمّـا أنتُم،
حافِظوا على شَرقيَّتِكم.
لا تَسمَحوا أن تُسلَبَ إرادتُكم،
حريّتُكم وإيمانُكم في هذا الشّرق. »
3- بتاريخ 17/4/2014، في دمشق:
« الجراحُ التي نَزَفتْ على هذِه الأرضِ،
هي عينُها الجراحُ التي في جَسَدي،
لأنّ السَّببَ والمسبِّبَ واحدٌ.
ولكنْ كونوا على ثِقَةٍ،
بأنّ مصيرَهم مثلُ مصيرِ يهوذا. »
هذه الرسائل بعينها، أريد لها أن تكون خاتمة كلمتي هذه.
وهل هناك مَن يسعه أن يعرف على نحو أفضل من السيّد المسيح والسيّدة العذراء، ما يحتاج إليه أقصى حاجة، عالمنا هذا التائه، بل الضائع؟
الأب الياس زحلاوي
دمشق 2024/5/10

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق