كتبت الأديبة ناديا خوست: مرارة
أعجب مشاهدو مسلسل "تاج" أنه ردّ على المسلسلات الشامية التي استغلت جمال البيت العربي والملابس المحلية وكفاءة الممثلين السوريين، فاستحدثت تاريخاً مزوراً، وشخصيات مشوهة، ونساء تافهات. لكن المكان الذي استحضره مسلسل "تاج" هو الذي استوقفهم. قيل: كم كانت دمشق جميلة! وتمنى الشباب منهم لو ركبوا الترام! ولاحظ بعضهم أنهم لا يعرفون غير وسيلة مواصلات وحيدة هي السيارة!
لن أتوقف أمام المسافة بين الفرنسيين ومن أدّاهم في المسلسل، أو أناقة أداء تيم حسن وكفاءة بسام الكوسا. ولا أمام الجيّد الذي أنجزه المخرج: حركة المجموعات. بل أمام المكان الذي جسده. وأمنيات: لو بقيت تلك المدينة التي شيدها المسلسل لنتجول فيها! فالشباب لم يعرفوا حتى ساعة المرجة ذات الوجوه الثلاثة، ولا حاجز بردى القديم!
أمامنا حقيقة وأسئلة: الأبنية الجميلة التي اعتمدها المسلسل، بُنيت أو حُميت في مرحلة "البورجوازية الوطنية". فكيف أصبحت مدينة مشاة تتذوق أنهارها وبساتينها، وتوقّت أيام النزهة بمواسم الأزهار والثمار، وتحرّم رمي الأوساخ في النهر، وتُجري مياهها الوسخة تحت أنهارها، ويحلو فيها المشي، وتحتمي بغوطتها من الحر، مدينة سيارات مزدحمة، ملوثة الهواء، يصعب فيها المشي والسير، ألغت منظومتها المائية القديمة، وقطعت الملايين من أشجارها، وهدمت أبنيتها التاريخية، وكسرت نظرتها إلى جبلها، وأغلقت بردى في مركزها، في المرحلة "الاشتراكية"؟
كيف كسرت عبقرية العمارة العربية التي لا تعرض سطوحها للشمس والبرد، وتُمتع بصوت الخطوة وهمس النفس في الحارات، وانكشفت للشمس طوال النهار فاستعانت بالمكيفات المستوردة من "الغرب الاستعماري"؟
في هذا "التطور"، ماذا فقدت ساحة الشهداء، المرجة، من الأبنية التاريخية التي تظهر في المسلسل؟
بناء البلدية الذي أعلن منه استقلال سورية ورفض الوطن القومي الصهيوني. والمستوصف المركزي. وجامع يلبغا، ثاني أكبر جوامع دمشق بعد الأموي. ومسرح زهرة دمشق. وسوق علي باشا للفواكه. وبناء البرق والبريد. الأبنية التي تشهد على حياة ثقافية وسياسية جرت في تلك الساحة أو لامستها. وأحداث كبرى منها إعدام شهداء أيار، وعرض شهداء الثورة السورية الكبرى. مادة ثمينة اجتهدت في رواياتي عن بلاد الشام للتذكير ببعضها. ولابد أن يجتهد مخرج سينمائي كبير، كسيرغي بندرتشوك، ليصوغ ذات يوم حياة تلك الساحة، في عمل يؤدي عظمة وحرارة ما عبَرته.
ذكّر مسلسل "تاج"، إذن، بأن الهوية المعمارية شهادة كبرى على شعب. والخطأ أن نتصور الصراع في أي مكان في العالم على أرض مجردة. فلماذا تناسينا أن هولاكو رمى مخطوطات بغداد في نهر دجلة، وأن تيمور أحرق دمشق وأسر مهنييها وصناعها وأفاد منهم في بلاده؟ فاستقدمنا سنة 1968، بعد حرب حزيران، المهندس الذي عمل مع الانتداب الفرنسي، ومخططه الذي يقتلع دمشق كلها ويضع أخرى بديلة، لتصبح كمستوطنة دون ذاكرة وهوية؟ لم يغفل الوطنيون آنذاك عن خطر ايكوشار، ويبدو أن السيد منيف الرزاز واجه الدكتور عبد الرؤوف الكسم حامي المخطط بتوقيعات منها توقيع مدير الآثار عفيف بهنسي.
ينص المخطط على كشف "آثار ملوك دمشق التوراتيين". وقد أوقفه الرئيس حافظ الأسد داخل السور. وأوقفه الرئيس بشار الأسد في حي سوقساروجا خارج السور. ومع ذلك، شاهدت خلال الاجتماعات لاستنقاذ ما بقي من الهوية المعمارية، شراسة المدافعين عنه. وتبيّنت أنه وضع وسيلة التدمير في أيدي أكثر الفئات أمية وجهلاً وأنانية، لتقتلع مدينة تاريخية بيئية ثمينة تحدّث عن جمالها الرحالة ولمس طرفها مسلسل "تاج".
لا أشك في أن تدمير الهوية المعمارية والأبنية التاريخية مرتبط بالصراع المركزي في منطقتنا. تعمّق هذا الايمان الحربُ على آثار الحضارة السورية والعراقية والليبية. فالوطني المحب يفهم أن قصر سبح، مثلاً، يمكن أن يستخدم مركزاً للهاتف بدلاً من هدمه. وأن دار البلدية رمز وطني يجب أن يسجل، وجامع يلبغا بناء تاريخي يجب أن يبقى بدلاً من المجمّع القبيح الذي شفط الماء سنوات، وبردى لا يجوز أن يغطى بل أن ينقّى، وحاجز بردى القديم جميل، والساعة ذات الأوجه الثلاثية ذاكرة. وفي هذا السياق، لا يجوز أن تبقى السرايا مهجورة.
لكن يستوقفني التساؤل: هل يتصور البشر في لحظات تاريخية، أنهم يحذفون المرحلة السابقة وشخصياتها وأحداثها لأنهم يصنعون مرحلة تتقدم عليها؟ لذلك لم نر قاعات قصر الكرملين وأبوابه المذهبة وسقوفه الجميلة قبل رئاسة السيد بوتين، وجهلنا أن القياصرة كانوا يزورون مراسم الفنانين ويشترون لوحاتهم؟ ولذلك تجاهلنا أن خالد العظم تذوق الفنون، ودافع عن نزار قباني في المجلس النيابي، ووضع قانون منع عمل الأحداث، وتحديد ساعات العمل، وأسس صوامع الحبوب، وسعى ليشيد مرفأ اللاذقية وسد الفرات، ووقّع الاتفاقية مع الاتحاد السوفييتي لتطوير القطاع العام.
يبدو أن العدالة التاريخية أكبر من نزوات المعاصرين، وأن خطوات التاريخ تهدر كالعاصفة فجأة. فتنتفض الشعوب، وتستعاد الذاكرة، وتنتعش الخرائط التي شوهتها أقلام غريبة. وليس ذلك دون مرارة! عرف آباؤنا فلسطين، وركبوا القطار بين دمشق وحيفا. وعرف بعضنا دمشق الجميلة، وركب الترام إلى بساتين دوما ونزل في محطات يزيّن أرصفتها الورد. لكن الجيل الذاهل أمام مسلسل "تاج" لم يعرف بردى النظيف المتدفق وسط مركز المدينة، وبساتينها النضرة المسيجة بأشجار الجوز. وكان يجب، على الأقل، ألا يرى قلع السبع بحرات، والسكة الحديدية من محطة الحجاز.
ناديا خوست
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق