كتبت الأديبة ناديا خوست: ترتيب المسائل
خيّل إليّ أني سأسمع قصائد الغزل في نفق المواساة! وكدت أتوهم أنه مجهز برصيف واسع للمشاة يبيح تأمل المقاطع الفنية التي تزين جدرانه! لا شك في أن الحفاوة واجبة بعمل المهندسين والفنيين المتقن في منطقة تجري فيها أنهار دمشق، ويلامس مدخلها التاريخي.
يجوز تثبيت هوية "مدينة السيارة" في مدن حديثة صناعية ومراكز مالية عالمية تسوق المنتج بين عمله وبيته بسرعة، فتعتمد المتحلّقات والطرق ذات الطبقات، وناطحات السحاب. لكن المدن العريقة التي يتذوقها أهلها تحاول ترميم الأخطاء التي شوهتها بالأنفاق والجسور والاوتوسترادات. تعتمد المواصلات العامة التي تثبت التجانس الاجتماعي، وتخصص الساحات التاريخية لمقاهي الناس.
لو رتبنا المسائل في هذا السياق، لكرسنا المليارات التي أنفقت على نفق المواساة للمواصلات العامة. فدون ذلك لا تحل مشكلة السير، مهما اجتهدنا وابتكرنا. ولأضأنا الشوارع المظلمة بالطاقة الشمسية. ولأُنقذ بناء السرايا الغني بذاكرة تاريخية، وكُشف بردى مقابلها. ولوضعنا مسألة إحياء بردى وتعزيل أنهار دمشق في رأس مسائلنا، وأفدنا من التجارب التي استعيدت فيها حياة الأنهار. ولابتكرنا طرقات للمشاة، تثبّت أيضاً التجانس الاجتماعي.
كان الرصيف المزدوج على حافة بساتين النيربين طريقاً للمشي، فقصت أشجار الجوز والأشجار المثمرة لتشيد حديقة تشرين. رأى مجلس محافظة دمشق في تسعينيات القرن الماضي تخصيص الطريق من عقدة الربوة حتى دمر للمشاة وإعلانه منطقة بيئية، واستخدام القطار على السكة الموجودة. فطار القطار، واجتاحت المدخل التاريخي السيارات بالرغم من طريق بديل.
في مقطع صغير هو منطقة نفق المواساة، تغيرت الصورة التاريخية. قبل بناء الجسر كان الطريق إلى المزة يمر بمحطة مراقبة القطار الصغيرة التي تحيط بها أشجار الكينا، فاقتلعت مع أن حمايتها كانت ممكنة.
المسألة إذن: مدينة السيارة، أم المدينة المريحة بمواصلات عامة وطرقات للمشي تنسج علاقة الإنسان بها؟
التزيين الذي يستلهم التراث الوطني والحضاري، وهو ضرورة، أم حماية الأبنية التاريخية الكبرى كبناء العابد والسرايا وتوظيفها وظيفة تحترم بنيتها وتجلو تاريخها؟ أما كان المؤثر أن تنظّف الشرفة التي أعلن منها الرئيس القوتلي الجلاء وتوضع عليها لوحة تذكّر بيومٍ وطنيٍ جامع؟ وأن تضاء في عقدة الربوة الصخرة التي حفر فيها تاريخ يتصل بقصر بناه نور الدين للفقراء؟
كم يفترض أن يتأنى من يلامس المدن العريقة، وأن يجتهد لحماية الهوية الجغرافية والتاريخية!
ناديا خوست
*الصورة لطريق الربوة 1950 من طابع بريدي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق