منطلقات أخلاقية لـ"التعافي المبكر" في سوريا
يصل قطار التعافي الذي انطلق منذ زمن بعيد، اليوم، إلى محطة أساسية في سوريا، فهو لم يعد لعبة جانبية، بل انتقل إلى قلب المشهد. فكيف يتعيّن علينا التعامل معه قبل أن يفوتنا هذا القطار أيضًا، بعد أن فاتتنا قطارات يصعب عدّها هنا!
دعونا أولًا نجلي بعض الأوهام المتعلقة بالتعافي المبكر، قبل أن نَمضي في منطلقاته الأخلاقية.
جُملة أوهام تعترض فكرة "التعافي المبكر"، أهمّها أنه ينطلق الآن لأول مرة منذ اندلاع الحرب في سوريا. فالتعافي المبكر كان يحدث على هامش الدعم الإنساني في جميع المناطق السورية دون استثناء. والمشاريع ذات الطبيعة السياسية كالحوكمة، وحقوق النساء، والتنمية السياسية، ومشاريع سبل العيش ذات الطبيعة الاقتصادية التنموية، لا يمكن أن تندرج تحت مُسمى "الدعم الإنساني"، وليست بطبيعة الحال إعادة إعمار!
مصدرُ هذا الوهم هو أن الفاعل الخارجي ــــ المانح هذه المرة ــــ هو صانع "الترند". فعندما يظهر المصطلح في أدبيات المانحين، يصبح هو مركز الأزمة الجديد إلى أن يظهر مصطلح جديد يُزيحه، ليبرهن عن استلابنا كسوريين وعدم فهمنا لاحتياجات مجتمعاتنا وما يجري فيها منذ سنوات.
الوهم الثاني هو أن التعافي المبكر يشكل بوابة الحل أو البديل التدريجي له، وهو يمثّل شرعنة لهذا الطرف أو ذاك. لكن مصدر هذا الوهم هو نحن ــــ السوريون ــــ الذين نقرأ كل حركة من الخارج بوصفها إشارة لمؤامرة جديدة تستهدفنا نحن (ليس مهمًا عندها من هذه النحن!).
واقع الأمر أن الحديث عن "التعافي المبكر" الآن ليس إلا نتيجة لانسداد الأفق السياسي، وبالتالي تأجيل الحديث عن إعادة الإعمار، المكلفة اقتصاديًا وسياسيًا من جهة، ومن جهة ثانية عدم القدرة على تقديم الدعم الإنساني، المكلف للغاية بدوره، في ظل أزمات كأوكرانيا وغزة.
ثالث هذه الأوهام هو القدرة على تجاوز سلطات الأمر الواقع في جميع الجغرافيات السورية. والأمر هنا يتجاوز قضية شرعية قوى الأمر الواقع. فهذه السلطات جميعًا لديها من الموارد والسلطة، بل والمؤسسات، بما يجعلها الوحيدة القادرة على إدارة اللعبة في مناطق سيطرتها، وما يجعل الحديث عن تجاوزها ضربًا من الخيال.
بالتأكيد، ستسعى هذه السلطات إلى الحصول على مكاسب سياسية من هذا التعافي، وهذه مسألة لا يقدر أحد على تجاوزها. ولكن هل تُشكل بوابة التعافي المبكر فرصة لفرض معيارية وطنية على الخدمات والتنمية المحلية؟ هذا سؤال آخر يختلف عن أسئلة الماضي المتعلقة بجعل منطقة من المناطق أقل سوءًا من المناطق الأخرى لتلبّس لبوس الشرعية.
رابع هذه الأوهام هو أن أحد أطراف النزاع قادر على الانتصار على باقي الأطراف عسكريًا، أو عن طريق الصبر الاستراتيجي، إلى أن تُتاح فرصة النصر العسكري. هذا الأمر أصبح من الماضي. وعلى جميع أطراف النزاع أن تعي أنها أولًا غير قادرة على الانتصار أو على تحمّل تبعات الانتصار فيما لو حدث. للأسف، فإن قسمة التراب السوري صارت واقعة إذا لم يع السوريون أنهم، بعنادهم، صاروا وقود الجحيم السوري.
خامس هذه الأوهام هو أن التقسيم مستحيل. إذا استثنينا بعض دول الجوار التي تخشى من عدوى التقسيم، فإن الباقي غير مكترث بمآل البلاد، بل وربما سيُسرّ بتقسيمها. ولكن ذلك لو حدث فعلًا، فإن الدم لن يتوقف لعقود، جاعلًا ما أُزهق من الدماء حتى الآن يبدو كنزهة في حديقة. فمع مستجدات المنطقة وحرب غزة وغليان دول الجوار، تبدو تبعات أي محاولة تقسيم بمثابة تفجيرٍ للمنطقة برمتها. وهو أمر، في نهاية المطاف، لن تقبل به دول الجوار باستثناء إسرائيل التي ترى فيه فرص خلاصها المسياني.
سادس هذه الأوهام هو إمكانية فصل التعافي المبكر عن السياسة. فبرغم أن التعافي المبكر لا يعني، ولا يجوز أن يعني، حلًا سياسيًا، إلا أن تخطيطه وتنفيذه سياسي بالجوهر. وقد يكون رافعة الحل مستقبلًا إذا بُني على معطيات تحمي وحدة الأراضي السورية وتعافي المؤسسات والمجتمعات، لا تعافي الأفراد فحسب. لكنه قد يكون أيضًا معرقلًا للحل السياسي، بل مدمرًا له، إذا نُظر إليه بوصفه جرعة من المسكنات في لعبة الانتظار الكبرى.
إذًا، يصل قطار التعافي الذي انطلق منذ زمن بعيد، اليوم، إلى محطة أساسية، فهو لم يعد لعبة جانبية، بل انتقل إلى قلب المشهد. فكيف يتعين علينا التعامل معه قبل أن يفوتنا هذا القطار أيضًا، بعد أن فاتتنا قطارات يصعب عدّها هنا! كيف نركب هذا القطار(وربما يكون لنا دور في قيادته) دون أن يعيث بالبلاد فسادًا، ودون أن يفتت المجتمع ويقسم البلاد؟
أول هذه المنطلقات، وربما أهمها، هو أن التعافي الذي لا يسعى إلى توحيد المجتمع السوري ليس تعافيًا، بل إمعان بالعلة والمرض. فالدعم الإنساني على مدى 13 سنة كان يقدَّم بحيث يشعل التنافس بين الجغرافيات، على قاعدة أن مجتمعي أولى من مجتمعك بالدعم، وأن المجتمع الذي يعيش في مناطق هذه السلطة أو تلك، يشبهها ولا يستحق تعاضد المجتمعات في المناطق الأخرى.
جميع المجتمعات مرهقة ومنهكة، والكل بحاجة إلى دعم، وجميع المؤسسات الخدمية في جميع الجغرافيات متهالكة، وجميعها يحتاج إلى استعادة دوره وفق معايير تقنية جامعة كي تتعافي مجتمعاتها. والإقرار بذلك واجب وطني، بل إنساني أيضًا. الموضوع ليس تقديم خدمة لحظية، بل استعادة منظومات الخدمات واخراجها من صراع الشرعنة السياسية.
ثاني هذه المنطلقات هو ضرورة ربط اقتصادات المناطق ببعضها البعض، وإلا فإن هذه الاقتصادات سترتبط، كما هو الواقع الآن، باقتصادات الدول المجاورة، والتي تتفوق عليها بأشواط. بالتالي، ستترسخ سلاسل اقتصادية تشكل فيها الجغرافيات الشقاقية اقتصادات تابعة ومستهلكة وغير منتجة، كما سيترسخ اقتصاد الحرب الذي تهيمن عليه الميليشيات وتجار الحرب عند العبور من منطقة لمنطقة.
إن الانتقال من اقتصاد الحرب الاستهلاكي (ولو بالحدود الدنيا للبقاء) إلى اقتصاد السلم المنتج، يجب أن يولّد مضاعفات اقتصادية وسلاسل قيمة حقيقية تربط المناطق السورية ببعضها، وإلا فإن الكل هالك في اللهاث وراء فتات المانحين.
ثالث المنطلقات أن يلعب الخارج دور المحفز والميسّر لا القائد. بتحديد أكبر، ما لم يُغيّر المجتمع المدني من قواعد عمله، القائمة على تنفيذ البرامج بحكم قربه من المانحين واستشرافه لأولوياتهم، إلى مُيسّر للبرامج المتولدة عن أولويات المجتمعات المحلية والمدعومة بشكل أساسي من موارد هذه المجتمعات، فكل حديث عن استعادة الخدمات وتفعيل دورة الاقتصاد حديث واهم.
وفي هذا السياق، فإن تنظيم موارد المجتمع ووضع الأطر الخدمية والتنموية لا يمكن بأي حال أن يتجاوز المؤسسات والأجسام التقنية الحكومية وشبه الحكومية، لتستعيد أدوارها التقنية ضمن إطار معياري وطني مبني على التشارك في المعرفة ونقل الخبرات وتكامل الموارد.
رابع المنطلقات أن تعمل برامج التعافي المبكر بسِمة اللامركزية، بحيث تكون إحدى المحفزات الأساسية لعملية التغيير السياسي الذي يعيد توحيد البلاد ويُرسي أسس الدمقرطة، لا على أساس اللامركزية التي تصنع حقائق مختلفة في كل جغرافية وتنتج تقسيمًا بحكم الأمر الواقع.
يتطلب هذا الأمر اعتراف الجميع بالجميع، بدءًا من العمل على أطر معيارية جامعة للاعتراف بالشهادات الدراسية بناء على الكفاءات التي تنتجها العملية التعليمية في جميع المناطق، وليس لاعتبارات سياسية أو مسيسة أخرى، مرورًا بتوفير شهادات المنشأ للبضائع السورية المصنوعة على جميع الأراضي السورية، وصولًا إلى حلول عملية تعترف بوقائع النفوس والسجلات المدنية لتثبيت حقوق السوريات والسوريين أينما كانوا. والأمثلة على المحفزات للعمل على توحيد البلاد في إطار اللامركزية لا تنتهي، وتحتاج إلى حوار وطني جاد بدلًا من الخطوات الارتجالية لفرض أطر قانونية للحكم المحلي لا تنفع سوى لتثبيت المحسوبيات السياسية لهذا الطرف أو ذاك.
ليست هذه المنطلقات مسائل تفاوضية، ولا تمثل حدًا أعلى أو أدنى للأطراف، بل اشتراطات كي لا تُقسّم البلاد. إذا كان كل ما جرى منذ العام 2011 قد قسّم البلاد بحكم الأمر الواقع، وإذا افترضنا أنّ أحدًا لا يريد أن يرتبط اسمه بتقسيمها (برغم أن الكل تورط بطريقة وبأخرى في تبرير التقسيم)، فهذه لحظة حاسمة كي تستيقظ الضمائر ــــ هذا إذا ما كان افتراض أن الضمائر ما زالت حية في مكانه ــــ فهل هذا وهم سابع؟!
زيدون الزعبي و عمر عبد العزيز الحلاج
16/04/2024 - موقع أوان ميديا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق