الرعاية أم المشارَكة.. ماذا نريد من الدولة؟
اعتمدت سورية نموذج دولة الرعاية التي تكفل المواطن من المهد إلى اللحد اجتماعياً وصحياً وتعليمياً، من خلال تأمين الخدمات الأساسية للمجتمع بالمجان إلى درجة كبيرة.
خلال الفترة الواقعة بين عامي ١٩٦٣ و٢٠١١، ذهب جزء مهم من ميزانيات الدولة على البنية التحتية للمجتمع، وعلى توفير رواتب تغطي الحد الأدنى الكفاف لمواطنيها، مع تأمين تعليم مجاني وطبابة شبه مجانية، مع تثقيف مجاني لمن يرغب.
في بداية العقد الثاني من القرن الحالي، بدأ انحسار فاعلية الحد الأدنى من الخدمات الأساسية التي يوفرها الأسلوب الرعوي أو الأبوي للدولة، في إثر النزيف المالي والسياسي والإنفاق العسكري الذي أعقب الحرب الإرهابية على سورية، فخرجت أعداد كبيرة من المدارس من منظومة التعليم، ودمرت بنى تحتية أساسية بفعل الإرهاب.
اليوم، يبدو أن زمن الخدمات المجانية قد ولّى، ولا بد من تغيير جوهري في وظائف الدولة، مع ضرورة تعوّد الناس على نمط مختلف من الحياة لا يقوم على الاعتماد الكامل على الدولة، بل بتحمل كل فرد، إلى جانب الدولة، دوره الإيجابي والفاعل، وكذلك الأمر بالنسبة للقطاع الخاص. فاليوم هناك نسب بطالة مرتفعة، وتنافس كبير على الوظائف العامة، ولم يعد بمقدور الدولة تأمين الوظيفة لكل مواطنيها بمجرد تخرجهم من الجامعات والمعاهد.
بالعودة إلى ما قبل عام ٢٠١١، لم يتم ترجمة التقدم الاقتصادي في بداية الألفية الثالثة إلى فرص عمل مستدامة، ولم تُوظَف الطفرة الاقتصادية باتجاه استدامة عملية التصنيع التي تعد مدخلاً أساسياً لإنتاجية المجتمع ولإيجاد فرص عمل متنامية ومستدامة.
صحيح أن إنتاج سورية من النفط كان بحدود 650 ألف برميل يومياً، إلا أن النفط ثروة ناضبة، لذلك كان لا بد من استثمار فوائضه في مأسسة التعليم والتصنيع وتطوير البحث العلمي وخفض الدين العام وتوسيع القدرة الاستيعابية للبنية الاقتصادية. كما أن الارتفاع الذي شهده الناتج الإجمالي لسورية كان يعود أساساً إلى النفط وأسعاره المرتفعة عالمياً وليس إلى زيادة إنتاجية الاقتصاد السوري.
إن تطوير سورية لقطاعات غير نفطية وإجراء إصلاحات بنيوية ومؤسسية تهدف لترسيخ أسس عملية النمو التي يقودها القطاع الخاص كشريك للقطاع العام المطلوب إعادة هيكلته، وتنشيط خطط توظيف المواطنين، وإعادة هيكلة منظومة الدعم الاجتماعي والخدمات المجانية التي تقدمها الدولة، كل هذه التحولات يجب أن تغيّر في طبيعة العلاقة ما بين الدولة والمجتمع والتي تقوم على الالتزام بعقد اجتماعي مجاني، وهو عقد الدولة الرعوية، عبر تقديم التعليم والرعاية المجانية والوظائف مع حد أدنى من الضرائب والرسوم.
واليوم تبرز ضرورة إعادة صياغة هذا العقد من أجل تحويل اعتماد سورية على إنتاجها غير النفطي ولتوفير الإيرادات العامة الحكومية في ظل محدودية احتياطاتها النفطية، وكذلك لضمان تطبيق مبدأ المحاسبة والشفافية في مؤسسات القطاع العام. ونشير هنا إلى أهمية الإصلاحات الضريبية التي تتم تباعاً، مع أن فكرة فرض نظام ضريبي كأداة لتأمين عائدات مالية لا يحظى بالشعبية في سورية.
إذاً، سورية اليوم أمام خيارين: إما الاستمرار بأداء دور الدولة الرعوية الملتزمة بعقد اجتماعي ينظم العلاقة بين الدولة والمجتمع عبر تأمين منافع اجتماعية واقتصادية من دون ضرائب، وإما أن تتجه الدولة نحو إعادة صياغة العقد الاجتماعي والانتقال من دولة الرعاية إلى دولة المشارَكة. ودولة المشاركة تعني تحقيق التنمية المستدامة، وإيجاد ثروات عامة وخاصة بفعل الأعمال المنتجة، أي أن للفرد دوراً أساسياً في إنتاج الثروة. ودولة المشاركة تعني أن يسأل المواطن نفسه: ماذا يمكن أن أقدّم لوطني، لا أن يكون التساؤل دائماً: ماذا يمكن لوطني أن يقدّم لي؟. دولة المشاركة تعني الانتقال من نموذج الدولة الرعوية (مشاركة المواطن في جزء من الثروة) إلى نموذج الاستعداد للمشاركة في السلطة واتخاذ القرار.
الدولة الرعوية تكاد أن تكون في غنى عن المجتمع، أما إذا اقترنت دولة المشاركة بقيام نظام ضريبي فعال لتمويل أنظمة الرعاية، فإن هذا يجعل السلطة السياسية أكثر تعبيراً عن مجتمعاتها، وهذا ما يفتح الحديث عن الإصلاحات الأخرى الاقتصادية والاجتماعية، ونزاهة القضاء، وتوسيع صلاحيات المجالس التشريعية، وايجاد توازن بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، واعتماد أنظمة للمحاسبة والشفافية، وتعزيز سيادة القانون، وتأكيد مساواة المواطنين أمام القانون، لكي يتمكن من أن يصبح المواطن شريكاً للدولة في الإنتاج.
إن الاعتماد على الموارد الاقتصادية الريعية كان يحجب الكثير من التحديات التي تواجهها سورية، وهذا ما أسهم في تباطؤ عملية التحديث والعصرنة، خاصةً في ظل ضغط المطالب الاجتماعية، مع استمرار النموذج الرعوي للدولة.
ولقد خلقت تجربة التنمية في سورية طبقة وسطى واسعة وممتدة، بدأت تطالب بالتعبير عن نفسها وطاقاتها، عبر المشاركة الشعبية في صناعة القرار وإدارة الشأن العام.
وفي ظل الاستقرار السياسي والانتعاش الاقتصادي تبدو فرص تلبية هذه المطالب متوافرة خاصة وأن مؤسسات الحكم والنظام السياسي في سورية يحظى باحترام الجميع.
اليوم نحن أمام انتقال وتمركز للقوة في العالم من الغرب إلى الشرق، والتغيرات الاستراتيجية التي نشأت في المنطقة بعد حرب أوكرانيا، زادت من أهمية سورية لدى الدول الكبرى ولاسيما روسيا والصين، كما زادت المطالبات التي تقيم ترابطاً وثيقاً بين التحديث ومشاركة المواطنين، وبين المشاركة والاستقرار. ومع وجود نحو مليوني عامل في سورية، فإن سورية محكومة بأن تتجه نحو الاستجابة للمعايير العالمية الخاصة بحقوق العمال، وكذلك أن تستجيب للمنظمات الدولية غير الحكومية ذات التأثير المهم في إصدار تشريعات تراعي المطالب والمعايير العالمية
. وعموماً المؤشرات الاقتصادية تدل على اتجاه نمو الحاجة للقوة العاملة، ما يدعو للتساؤل عما إذا كان بمقدور سورية الإبقاء على سياستها الحالية في التعامل مع هذه العمالة كعمالة غير مؤهلة تستحق أجراً متدنياً، دون أن تحظى بأي فرصة لتكون قوة عمل تشاركية مع الدولة، لاسيما في ضوء الاتجاهات العالمية نحو انتقال الدول من النموذج الرعوي إلى النموذج التشاركي.
د. ذو الفقار عبود
صحيفة الثورة الحكومية، 9/4/2024
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق