الهوية السورية بين عاصمتين.. و” أخ أكبر”


 الهوية السورية بين عاصمتين.. و” أخ أكبر”

مقال مهم للباحث زيدون الزعبي في موقع 180post
لم يظهر اسم سوريا بوصفها كياناً سياسياً/إدارياً حتى فترة التنظيمات العثمانيّة، وتحديداً عام 1865 حين بدّلت السلطنة العثمانية اسم "ولاية الشام"، إلى "ولاية سوريا". قبلها بقرون طويلة، كانت هناك ولاية باسم “ولاية سوريا” ضمن الإمبراطورية الرومانية قبل أن تبدأ في التلاشي أواخر القرن الثاني الميلادي. ضمّت “ولاية سوريا” العثمانية الأجزاء الأكبر من حماة وحمص شمالاً وحتى العقبة جنوباً.
في الوقت نفسه، كانت “ولاية حلب”، ثالثة الولايات العثمانية بعد إسطنبول والقاهرة، تضم ما يعرف اليوم بدير الزور، الرقة، عينتاب، مرعش وإسكندرون. أي أن “ولاية حلب” كانت آنذاك أكبر مساحةً وعدد سكّان من “ولاية سوريا”. تنطلق هذه المقالة من حقائق عدة: أولاً؛ كان اسم سوريا اسماً ملتبساً لجغرافيا واسعة من جهة، واسماً لولاية إدارية عثمانية تغطي تقريباً نصف سوريا التي نعرفها اليوم من جهة أخرى.
ثانياً؛ بعد دخول القوات العربية بقيادة الأمير فيصل والاستقلال عن السلطنة العثمانية، كان الاسم الذي استُخدم مباشرة هو “المملكة العربية السورية”، ودون أي خلاف على ذلك بين الدمشقيين والحلبيين، على ما يبدو. ثالثاً؛ لم يحاول الدمشقيون الدفع نحو تبني اسم “الشام”، الذي كان أكثر تعبيراً عن الجغرافيا التي تعنيها سوريا، على الأقل تاريخياً. يتعجب المؤرخ عبد الكريم غرايبة، ويتعجب معه الباحث جمال باروت: “لأمر غريب أن يُعرَف شعب باسمه الأجنبي، وينسى التاريخ اسمه الوطني!”[1].
يمر كثير من الباحثين على اسم سوريا مروراً عابراً، مؤكدين جذره الأوروبي، دون تقصي سبب تلقي “السوريين” هذا الاسم من دون أي اعتراضات. لقد غاب اسم سوريا الذي أطلقه الرومان واليونانيون على شرق المتوسط[2] تماماً من الأدبيات العربية والإسلامية لأكثر من ألف عام، فيما برزت منذ العصر الأموي أسماء مثل: الشام، بر الشام، وبلاد الشام، إلى أن عادت مرة أخرى باسم ولاية عثمانية، وربما جاء ذلك نتيجة التفاهمات العثمانية مع الغرب.
فلماذا إذاً اختار السوريون هذا الاسم؟ لماذا لم يعودوا إلى اسم الشام؟ لماذا لم يؤرخوا عملية التحول هذه؟ كيف وافق الحلبيون على اسم ولاية جارة ربما أقل شأناً من ولايتهم، ليكون اسم البلاد التي ينتمون إليها؟
لا أزعم هنا القدرة على الوصول إلى إجابة أو إجابات حتمية، لكنني سأضع افتراضات أربعة لهذا التحول: الفرضية الأولى: استرضاء الغرب. يتفق المؤرخون جميعاً على دور الغرب في فرض هذا الاسم على الولاية التي كانت تعرف باسم “ولاية الشام”.
ومما لا شك فيه، أن النخب “السورية” تحالفت مع الغرب للتخلص من الهيمنة العثمانية، وبالتالي لربما آثرت النّخب هذا الاسم نوعاً من التودد للغرب، وإثباتاً للقطيعة مع الخلافة العثمانية. الفرضية الثانية: الإمعان في علمنة الدولة. فعلمنة الدولة كانت – باعتقادي – محوراً أساسياً في الانفصال عن السلطنة العثمانية، بما يعنيه هذا من الانفصال عن الخلافة الإسلامية.
بالتالي، ربما كان الهدف من اختيار اسم سوريا تكريس القطيعة مع الخلافة الإسلامية. يُعزّز هذه الفرضية مشروع دستور 1920، الذي اكتفى بتحديد دين الملك، مبتعداً عن نص “دين الدولة هو الإسلام”، الذي طبع الدستور العثماني للعام 1876. الفرضية الثالثة: هيمنة الجنوب على الشمال. فالثورة العربية بقيادة الأمير فيصل، دخلت “سوريا” من دمشق متجهة نحو حلب، أي أنها دخلت ولاية كان اسمها سوريا متجهة نحو ولايتي حلب وبيروت، وبالتالي هيمن ذلك الاسم على الكيان السياسي الناشئ.
الفرضية الرابعة، هي فرضية التوافق الدمشقي-الحلبي. أفترض هنا أن التنافس الدمشقي/الشامي-الحلبي، حال دون إطلاق اسم أي من الولايتين على الكيان السوري الناشئ. بمعنى أن اسم سوريا كان اسماً حيادياً بين الولايتين القويتين: لا نسمي البلاد باسم الشام، ابتعاداً عن ولاية الشام، التي عاصمتها دمشق، وليست هناك إمكانية لتسميتها بالطبع باسم حلب، فلا بأس إذاً من اسم له مكان في التاريخ، وتعبير جغرافي عن مساحة واسعة، ولا يرتبط بأي من المدينتين، ولتكتفِ دمشق بلفظة “الشام” ضمن اسم العاصمة التي صار اسمها “دمشق الشام” وفق المادة الأولى من مشروع الدستور.
ربما كانت واحدة من هذه الفرضيات، أو بعضها، أو كلها سبباً وراء هذه التسمية. وربما أيضاً كان هناك سبب آخر، لكنني أرجح الفرضية الرابعة، خاصة أن التنافس الحلبي الدمشقي أرخى بظلاله على تاريخ سوريا الحديث، على الأقل حتى العام 1958.
‏نحنا ما بدنا ندخل لن نصير مثل إسرائيل حتى نهزم هيك يعني أسرع لكن هل من المهم أن نُجيب عن هذا السؤال؟ هل من المهم أن نعرف أصل اسم سوريا؟ ألا يكفي أن اسمها سوريا؟ باعتقادي أن الإجابة مهمة، خاصة أن التنافس بين حلب ودمشق، كان عاملاً مهماً في عدم بناء وتجذير هوية سورية مكتملة، بل وفي تسلط العسكر على البلاد. الهوية السورية ومراحلها الثلاث لقد مرّت الهوية الوطنية السورية، من وجهة نظري، بثلاث مراحل أساسية هي: المرحلة الأولى: مرحلة تكون الهوية السورية القوية ببُعدين عربي وإسلامي.
امتدّت بين العامين 1920 و1950، أي بين مشروع دستور 1920، ودستور 1950، مروراً بدستور 1930. كانت تلك المرحلة، مرحلة نضال وطني ضد الاستعمار الفرنسي، واحتاجت خلالها النخب إلى هوية سورية جامعة، كي تعبئ الجماهير خلفها في عملية التحرير، مما خلق إطاراً وطنياً جامعاً موحداً لها عبر كامل الجغرافيا.
المرحلة الثانية: مرحلة الهوية القلقة، بدأت مع فجر الجلاء، لتتكرّس في دستور 1950، وتنازعت فيها الهوية السورية، محمولة على “أجندات” النخب الدمشقية والحلبية، والهوية العربية التي كانت تعم الوطن العربي، والهوية الإسلامية التي حاولت حركة “الإخوان المسلمين” ترسيخها. المرحلة الثالثة: مرحلة الهوية العروبية، التي جاءت مع جمال عبد الناصر، وتكرّست مع حكم البعث من العام 1963 وحتى العام 2011 موعد الانفجار السوري.
مع نهاية المرحلة الأولى، وخلال سنوات الاستقلال الأولى، تزايد التنافس بين حلب ودمشق. انقسمت الكتلة الوطنية التي قادت النضال ضد الاستعمار الفرنسي إلى كتلتين أساسيتين هما حزب الشعب وغالبيته من حلب، والحزب الوطني وغالبيته من دمشق.
عن في حقيقة الأمر، انشق حزب الشعب عن الكتلة الوطنية احتجاجاً على تعديل الدستور لإعادة انتخاب شكري القوتلي، واتهامه الكتلة الوطنية (وخاصةً الدمشقيين فيها) بالانقلاب على الأسس الديموقراطية، علماً أن الأمر في جوهره، كان خشية الحلبيين من ميل القوتلي نحو السعودية ومصر، في حين كان الحلبيون أقرب إلى العراق. ثم تكرّس هذا الانقسام بمقاطعة الحزب الوطني احتجاجاً على انقلاب حسني الزعيم الذي أطاح بشكري القوتلي لانتخابات المجلس التأسيسي الذي تزعمه رشدي كيخيا، رئيس حزب الشعب.
وضع المجلس التأسيسي هذا دستور 1950، الذي، كما ذكرت سابقاً، كرّس ما أسميته بالهوية القلقة. سمح هذا التنازع، مع الفساد الذي أصاب هذه الكتل، وابتعادها عن الشارع، لأحزاب فوق وطنية، أكثر قرباً من الناس، كحزب البعث وحركة “الإخوان المسلمين”، بالدخول إلى البرلمان من جهة، والجيش من جهة أخرى. يكفي أن نرى أن مراجعة مداولات دستور 1950، تفضح البرود الذي قابلت به هذه النخب الانقلابات العسكرية، وخصوصاً انقلاب أديب الشيشكلي، واعتقال سامي الحناوي واتهامه بالتآمر، بعد ثلاثة أيام فقط من تقديم هذه النخب الشكر له بوصفه منقذاً للوطن!
أفضى ذلك في نهاية المطاف إلى هيمنة الشيشكلي على البلاد، ما أبرز حماة، التي ينتمي إليها الشيشكلي، كمتوسط حسابي بين دمشق وحلب، وانحسر دور البرجوازيّتين تدريجاً، قبل عبد الناصر، وقبل التأميم والإصلاح الزراعي. كان هذا التنازع في جوهره تبايناً بين مشروعين: الأول، حلبي يتجه نحو العراق، والثاني، دمشقي يتجه نحو مصر. أي أن كلا الطرفين المتنازعين كانا يُقرّان بضعف سوريا، ويبحثان عن “أخ أكبر” في العراق أو مصر، يحمي مصالحهما التجارية في الدرجة الأولى، سعياً إلى هوية تساعد في تحقيق هذه المصالح..
قبل أن يأتي الجيش ويزيح كلا البرجوازيتين، مُرحباً بعبد الناصر سيداً على البلاد. إذاً في حقيقة الأمر لم يأت البعث بعبد الناصر وحكم العسكر، ولم يقوّض الجيش الديموقراطية. مَنْ أفسح المجال أمام تدخل الجيش في السياسة، ومن تجاهل الانقلابات لأنه ظنّها لمصلحته ضد الآخر، عندما قرّر الحزبان التحالف ضد الشيشكلي، لأن الجميع وقتها فقد الثقة بهما وبالنخب التقليدية. ولم يكن ضعف الهوية السورية نتيجة سياسات البعثيين والناصريين فقط، بل جاءت الهوية العربية لتحل محل الهوية السورية التي أضعفتها سياسات البرجوازيتين.
نعم وضع البعثيون والناصريون الهوية العربية بمواجهة الهوية السورية، وأمعنوا في إضعافها، لكن الخطأ هو خطأ من أفسح في المجال لذلك! ليس الغرض من هذه المقالة تقريع النخب الحلبية والدمشقية، وإلقاء اللوم عليها في ما آلت إليه البلاد، بل العكس تماماً. ما أردت قوله: إن إعادة إحياء الهوية الوطنية السورية يتطلب إدراك ما جرى لها أولاً، والدور المحوري لحلب ودمشق في بنائها ثانياً.
ومن دون إدراك دور هاتين المدينتين بشكل أساسي، ودور باقي المدن الكبرى في سوريا، كدير الزور، حمص، حماة واللاذقية، سيكون جوهر الهوية السوريّة أشبه بهلام لا يمسكه أحد!
[1] انظر جمال باروت، الإخفاق في بناء الدولة ونهاية الجمهورية البرلمانية السورية الأولى والأخيرة، في الدولة العربية المعاصرة: بحوث نظرية ودراسات حالة، المركز العربي للدراسات وبحوث السياسات، الدوحة 2023.
[2] انظر، لميا رستم شحادة، اسم سوريا في العصر القديم والحديث، في Beshara, A. (2011). The Origins of Syrian Nationhood. Histories, pioneers and identities, London.
زيدون الزعبي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق