كتب الأستاذ محمود عبد الواحد، حكومة الكترونية بنكهة الجهل والتخلف
من البديهي أنه لكي تؤسس لحكومة ألكترونية ينبغي أن يكون لديك ألكترونات قبل كل شيء، أي كهرباء وأنترنت متطور وموظفون ومراجعون يستطيعون العمل على الكمبيوتر، وكل البنية التحتية اللازمة لذلك.
منذ أيام وأنا أحاول استخراج جواز سفر (أريد أن أقوم بسياحة حول العالم بما يفيض عن راتبي التقاعدي)، فقالوا لي: أُلغيت معاملة استخراج الجواز يدويا، وليس أمامك سوى مركز خدمة المواطن على الانترنت. قلنا: عظيم! أصبح بوسعنا الآن الاستغناء عن هذه التجمعات الغفيرة أمام مباني الهجرة والجوازات، وأصبح بإمكان المواطن وهو بالبيجاما أن يستخرج جواز سفره.
وهكذا، لبست البيجاما، وجلست إلى الكمبيوتر وفتحت الرابط، ودخلت إلى الموقع المحدد وفتحت على معاملة استخراج جواز سفر. كان أمامي خياران: عادي، وفوري. العادي رسمه 63 ألفا وكسور، أما الفوري فرسمه مليون ليرة بالتمام، وهذه ينبغي أن تدفع عن طريق الانترنت حصرا وقبل إكمال المعاملة.
قلنا نجرب العادي، وقد استجاب الموقع فعلا، وحدد لي موعدا مبدئيا لاستلام الجواز بعد سنة واحدة ويومين، مع تحذير بأن هذه المدة قابلة للتمديد، وهي تمدد فعلا لشهور عديدة، وربما لسنوات، وقد تلغى فجأة لتبدأ من الصفر مع منصة أخرى (هذا ما حدث معي في المنصة القديمة. فبعد أن حددوا لي موعدا بعد سنتين وأربعة أشهر ألغيت المنصة، وظهر بدلا منها هذه المنصة الجديدة).
ولأنني لا أريد أن أرحل إلى العالم الآخر قبل استخراج الجواز قررت أن أنتقل إلى الخيار الفوري. ولكن مهلا، كيف سأدفع هذه المليون ليرة عن طريق انترنت بلد تنقطع فيه الكهرباء معظم أوقات الليل والنهار، ألن تطيح غصة كهربائية أو شرارة ألكترونية بمليوني هذا (الذي يساوي بالتمام والكمال رواتبي التقاعدية لمدة سنة)، والعوض بسلامتكم. قلت سأجرب بمعاملة أخرى رخيصة، ولتكن إخراج قيد. هذه تكلف ألفين ليرة فقط، وهو مبلغ لا يؤسف عليه في حال تشردق الانترنت وضاعت النقود.
أنجز الموقع المعاملة بسرعة مذهلة وقال لي: المعاملة جاهزة للاستلام! فراجعت الدائرة المحددة وفعلا وجدت إخراج قيدي ينتظرني، فأخذته وعدت إلى البيت، ونمت قريرا تملؤ جفوني أحلام إلكترونية حصرا، وعندما استيقظت جلست إلى الكمبيوتر وطلبت جواز سفر فوري فورا.
بعد الانتهاء من ملء الخانات المحددة بالمعلومات المطلوبة، ولدى الكبس على زر الحجز أتتني العبارة البليغة التالية: (نأسف لإعلامك أنه تم استهلاك كامل الحصة المخصصة لفرع الهجرة المختار للحجز الفوري ليومي الدوام القادمين. يرجى المحاولة غدا). قلت لا بأس، نحاول غدا.
حاولت غدا وبعد غد وبعد بعد غد، وبعد أسبوع وأسبوعين وثلاثة. النتيجة هي نفسها. حاول غدا. قررت أن أبدأ محاولاتي مع بداية الدوام، في الثامنة صباحا، ولكن النتيجة لم تتغير. أحد العارفين قال لي إنني يجب أبدأ محاولاتي في منتصف الليل. وهكذا جلست قبل الثانية عشرة بربع ساعة وأنا أحاول. والنتيجة نفسها، إلى دقت الساعة معلنة منتصف الليل.
هنا بدأ نشاط مختلف على الموقع، احتفت جملة استهلاك كامل الحصة وبرز بدلا منها عبارة: (حدث خطأ، يرجى المحاولة لاحقا) تتناوب مع عبارة أخرى (عذرا الخدمة غير متاحة حاليا، يرجى المحاولة لاحقا)، بل وفي بعض الأحيان أحس بالموقع يغضب مني فيقول لي، ولكن بلغته الألكترونية الفصيحة (مالك معاملة عندنا!).
ثم بعد ثلاث أو أربع دقائق تعود الجملة الروتينية المعهودة (نأسف لإعلامكم...).
فتحت على صفحة الفيسبوك الخاصة بالخدمة، فبالتأكيد ستردهم شكاوي حول الموضوع. وبالفعل هناك شكاوى كثيرة واحتجاجات تتمحور كلها حول استحالة الحجز، ولكن يبدو أن المسؤولين عن الصفحة من جماعة كول وشكور، إذا لا تجد لديهم سوى رد واحد: شكرا لاهتمامكم، ونحن نبذل كل جهدنا لخدمتكم.
تحسرت على أيام العمل اليدوي والمزاحمة بالمناكب، لأنك وسط العجقة يمكنك إذا نظرت إلى الموظف المسؤول نظرة حنان بزاوية معينة ودفعت المعلوم تحصل على مبتغاك، أما هنا فأنت تتعامل مع حيط. صحيح أنه الكتروني ولكنه حيط لا يهش ولا ينش ولا يبش.
أحد الموسوعيين قال لي: حتى مع هذا الحيط تستطيع بنظرة الحنان والزاوية المعينة ودفع المعلوم أن تحصل على ما تريد، ولكن ينبغي أن تعرف كيف وأين ومتى ومن.
ولأنني أحسست نفسي ليس مواطنا في دولة، وإنما شخصية من شخصيات قصص المغامرات مثل جزيرة الكنز وإنديانا جونز ولغز المدينة المفقودة وغيرها، التي تخوض الأهوال وتصارع الوحوش كي تصل إلى هدفها، قررت أن أغفو ليلتي، وأن أصحو باكرا، وأجهز مستلزمات التوغل في الغابات الأفريقية، كي أبدأ في اكتشاف مجاهل هذه الأدغال الألكترونية، فربما أستطيع حل الأسرار المتعلقة بكيف وأين ومتى ومن..
محمود عبد الواحد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق