كيف نُعيدُ الإعتبار للوظيفة العامّة؟
نصطدمُ من وقتٍ لآخر ببعض التصرفات التي يقومُ بها موظفوا الحكومة وعلى اختلاف مستوياتهم، وهي تنُمُّ عن قلّة الحيلة أحياناً وانعدام التجربة أحياناً أخرى وغياب الوعي والمعرفة غالباً.
في السابق كانت وظيفة الحكومة مسؤوليّة اعتباريّة تشغلُها قوى الطبقة المثقفة أو المتعلّمة، وقد درج الناس على اعتبار موظفي الحكومة أشخاصاً اعتباريين، كيف لا وهم يقومون بأسمى الأعمال من تنظيم للشؤون العامّة وتحقيقاً لمصالح الناس.
ولابُدّ أن أبناء الطبقة المتعلّمة كانوا بشكل أو بآخر ميسوري الحال، فلنقل لديهم فرص للكسب المادي متوافرة ومختلفة، ولهذا كان كثيرٌ منهم يطمحُ للوظيفة ليعزز سلطة عائلته المتحولة عن البرجوازيّة أو يكمّل مسيرة عائليّة كان لها أدوار في الدولة الحديثة الناشئة رُبّما، يمكننا هُنا مراجعة أسماء موظفي الحكومة سابقا لنجد أسماء عائلات معروفة في السياق المتبدّل والعابر لحكم الدولة من العثمانيين أو الفرنسيين وحتى بدايات حُكم البعث.
الذي جرى دون ايغال بالتفاصيل الآن هو ببساطة توسّع أعمال الحكومة واداراتها والحاجة لجيش من البيروقراطيين من مختلف المناطق، لتحقيق وادارة مصالح الجمهوريّة الجديدة، وهُنا لم تعد تكفي معاهد الاعداد ومراكز التدريب التي إن كانت موجودة فقد تمّ تجاهُلها، بالحاجة للكمّ الكبير من الموظفين والظروف المتقلّبة والضرورة لأعداد كبيرة، وذلك لشغل مسؤوليات ربّما لم يسمعوا بها من قبل، خاصّة مع توسّع حجم القطاع العام وهويّة الدولة الاشتراكيّة وصراع الطبقات الذي دفع بالقلقين من البرجوازيين وغيرهم للمغادرة مع سياسات التأميم والاصلاح الزراعي كما اصطُلح عليها.
على الرغم من هذه الملامح فقد كان القطاعُ العام منذُ حكم البعث منتجاً وله أثر كبير في عمارة الدولة وتخديم متطلبات الناس، حتى بدت فكرة الحصار الإقتصادي والعقوبات الإقتصاديّة أوراق بيد الدولة لا عليها، وكانت الوظيفة العامة لها شيء من الإعتبار طالما أنها توفّر مدخولاً للموظفين وعائلاتهم يسمح لهم بما أمكن أن يحافظوا على مكان لهم في الطبقة الوسطى، أو يكاد أن يسمح بذلك.
منذ عام 2000 كان هناك مساحات أقل قلقاً ابتداءاً من خطاب القسم وليس انتهاءاً بإعتماد هويّة اقتصاديّة جديدة بعد 2005. بدأ القطاع الخاص بأخذ دور تشغيلي أكبر وانتشرت وظائف البنوك والشركات الكبيرة والتي قدّمت عروضاً مُغرية، فتحوّلت الوظيفة العامّة لأدنى الوطائف كعائدات مادّية وكفعاليّة حقيقيّة نتيجة انتشار الخدمات الخاصّة مثلا المستشفيات وشركات التأمين وغيرها، بعد احتكارات حكومية بقيت لعقود مسيطرة في هذه القطّاعات.
بقي الحدّ الأدنى للرواتب والأجور متدنّياً وبقي السقف أيضاً متدنّ، لكن بقيت هذه الأجور ثابتة ومستدامة بالمقابل، الدولة لا تطرُد أحداً ولا تُحاسب أحداً، وأما الفُرص والترفيعات فهي تخضعُ لاختبارات الولاء والانتماء الحزبي أولا، وربما أخيراً.
بعد 2011 تراجع القطاع الخاص بشكل كبير، وشكّل رأس المال الهارب كتلاً نقديّة في مصارف خارجيّة فجعل أصحابهُ مُرتاحون للفوائد، بعضهم فكك مؤسساته بالفعل ونقلها لدول الجوار، الباقون قبلوا مخاطرة البقاء مع تمنّي فرص هُنا وهُناك أو الإنضمام لتكتلات الأمراء التقليديين والجُدد.
سُرّحت أعداد كبيرة دون مُستحقاتها، ومن حافظ على موظفيه قلّص بعضهم، وخفّض رواتبهم وفي غالب الأحوال بقي رواتبهم على سعر صرف 2010
الحكومة فقط حافظت على موظفيها وكان في أولوياتها كما يبدو أن تدفع رواتب الموظفين على وقتها، يُشهد للحكومة عدم تأخرها عن صرف الرواتب حتى لموظفي المناطق الخارجة عن سيطرتها. لم تكتفي الحكومة بذلك بل وبشكل مُستغرب وظفت آلاف الجُدد وطبعاً رواتب الحكومة لم تعد تكفي ليكون الموظفون حتى من الطبقة الدُنيا والعودة للطبقة الوسطى يبدو لموظفي الحكومة اليوم حُلماً.
أعداد هائلة ابتعدت عن الوظيفة العامّة، خصوصاً بعد 2011 كان خيارُ العمل في أي منظمة مدنيّة أو خيرية يساوي وظيفتي دولة بكامل مخصصاتهما على الأقل أو العمل حتّى في بيع المياه أو المازوت وربما البنزين مُربحاً أكثر من أعلى راتب حكومي ممكن الوصول إليه.
واليوم في الوظيفة العامّة هناك آلاف الحالمين بتطويرها، لكنهم لايملكون الأدوات ولا الفُرص ولا الهوامش، والآلاف أيضاً لايرغبون بالتطوّر أبداً، ربما يبدو لهم في ذلك تهديداً للعلاقات الزبائنية والرشاوى التي يعتاشُ عليها جُل موظفي الحكومة.
الموظفون فقدوا احترام الناس، وتقديرهم وبات أكبر موظف يُمكن شراء ذمّته غالباً. وهذا ما نُريدُ إعاد التفكير به!
كيف نُعيدُ الإعتبار للوظيفة العامّة بكونها مصلحةُ المصالح، هل نبدأ من سلسلة الرواتب والأجور؟ أم من التدريب والتأهيل؟ أم من لجان القبول والمسابقات الحقيقيّة؟ أم من أين؟ هناك حاجة حقيقية لذلك لكي يعود الموظفون ويكون المواطن في صُلب اهتمامهم فيؤدون الوظيفة العامّة لتكون عامّة وليس وظيفة زبائنيّة تُباع وتُشترى.
وسيم السخلة
مُعاد نشره من2019
* الصورة من مجلَة المصور عن معرض دمشق 1936، مصدر الصورة الباحث عماد الأرمشي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق