عن واقع وتشجيع وتقنين ثقافة التبرع بالأعضاء،
كتب د. ابراهيم درّاجي:
بعد أشهر قليلة من حصولي على الدكتوراة وعودتي لسورية دخلت غرفة العمليات بمشفى ابن النفيس الحكومي بدمشق لأجل التبرع بالكلية لوالدي وهي العملية التي تمّت بالفعل في ربيع سنة 2003.
تمر هذه الأيام ذكرى مرور عشرين عاماً على تلك الواقعة وأنا أكتب هذه الكلمات لتحفيز، الفعل أو النقاش، حول قضية تستحق الاهتمام، وهي قضية التبرع بالأعضاء البشرية، التي قد تكون عملاً إنسانياً بالغ السمو والقيمة، أو فعلاً اجرامياً مرفوض في الدنيا ومذموم في الأخرة!!
بالنسبة لي كان قرار التبرع بكليتي لوالدي أمر محسوم على الصعيد الشخصي، وبرغم ذلك فإن قراري كان يتوقف تنفيذه على رأي ثلاث مرجعيات أساسية وهي الطب، والقانون، والشرع. وذلك لحسم التساؤلات فيما إذا كانت تلك العملية ممكنة طبياً؟ و جائزة قانوناً؟ ومُباحة شرعاً؟
لا زلت أذكر قلقي ولهفتي عندما نزلت الدرجات القليلة التي تفصل بين كلّية الحقوق، حيث بدأت عملي في ذلك الوقت، وكلية الشريعة، جيرانناً في ذات المبنى، لسؤال علمائها عن مشروعية التبرع من عدمه، وذلك بعد أن حصلت على الأجوبة الإيجابية طبياً وقانونياً، وقد توجهت بالسؤال لأبرز علمائها حينها والذي أجابني بالقول " أن الأمر يقتضي سؤال أهل الطب أوّلاً لضمان أنه لن يلحق بالمتبرع ضرر ، فإن أفتوا طبياً بذلك فإن المشروعية تتوقف حينها على النيّة فإن كانت صافية ومتجهة للتبرع لوجه الله تعالى ، دون أي مغانم أو مطامع أخرى، فإنها تكون عندئذ مشروعة ويُثاب الإنسان عليها، أمّا إن كان الغرض منها تحقيق منفعة مادية أو سواها ، ظاهرة أو مستترة، فإن الفعل سيكون عندئذ اثماً كبيراً لأن الانسان سيتصرف حينها بما هو مؤتمن عليه".
بفضل الله تمت العملية بنجاح في المشفى الحكومي و بشكل مجاني بالكامل، حيث وفّرت المشافي الحكومية المتخصصة في سورية إجراء تلك العملية مجاناً للجميع، مع إمكانية توفير الأدوية اللازمة، بشكل مجاني أيضاً، مدى الحياة للمريض المُتبرع له المستحق لها. وهو ما تم بالفعل منذ ذلك التاريخ.
حفزتني تلك التجربة للالتفات إلى عالم لم يكن ضمن دائرة اهتمامي، وهو موضوع الاتجار بالأعضاء البشرية وبيعها تحت ستار التبرع، وهو الفعل الذي يُعد أحد أبرز صور جريمة الاتجار بالأشخاص.
بعد عامين تماماً على تلك العملية التقيت مع السيدة ماريّا رمّان، رئيسة بعثة المنظمة الدولية للهجرة بدمشق، والتي حفزتني للعمل والاهتمام بقضايا الاتجار بالأشخاص فكتبت دراسة حول "مواجهة الاتجار بالأشخاص في القوانين والتشريعات السورية" أصدرتها المنظمة الدولية للهجرة سنة 2005. (أذكر هنا بكل محبة وتقدير الدور الكبير للسيدة ماريّا رمّان في مسيرتي المهنية، و جهودها المميزة للاهتمام بهذه القضية في سورية).
تم لاحقاً تشكيل لجنة وطنية من عدّة وزارات لكتابة أوّل قانون سوري خاص بمكافحة جرائم الاتجار بالأشخاص، وكنت أحد أعضاء تلك اللجنة حيث ساهمت بكتابة القانون الذي صدر سنة 2010، وهو ما ترافق مع إنشاء إدارة مختصة في وزارة الداخلية لمكافحة جرائم الاتجار بالأشخاص، وكذلك مأويين لحماية الضحايا أولهما بدمشق والأخر بحلب. وقبل ذلك كنت قد أصدرت، مع المنظمة الدولية للهجرة، سنة 2009، كتاب حول الاتجار بالأعضاء البشرية متضمّناً موقف الشرائع الدينية والتشريعية الوضعية من مسألتي التبرع والبيع، كما أصدرت لاحقاً مع المنظمة الدولية للهجرة أيضاً، كتاب أخر بعنوان " 200 سؤال وجواب حول الاتجار بالأشخاص" وذلك وفقاً للقانون السوري والتشريعات المُقارنة.
كانت لدينا طموحات كبيرة حينها لإطلاق مشروع واعد من أجل تقنين وتشجيع ثقافة التبرع بالأعضاء، من الأحياء والأموات، وفق ضوابط محددة، قانونية وطبية وشرعية، واستناداً إلى الأليات النافذة والناجحة في العديد من دول العالم.
بعد سنة 2011 توقف كل شيء. حيث تغيّرت الأولويات والاهتمامات، لي شخصياً وللجميع كذلك، لكنني كلما قرأت اعلاناً على جدران مدينتي عن مريض بحاجة "لمتبرع بالكلية" أو حتى " متبرع" يعلن عن نفسه وعن رغبته " بالتبرع" وعن امتلاكه كذلك لتحاليل الأنسجة الطبية أيضاً.. أعلم حينها أن ثمة صفقة ما، للبيع بمقابل، تجري في الخفاء، وهي صفقة تّشكّل جريمة وفق قانون كتبت بيدي مسودته الأولى، وكنت أدرك، منذ كتابته، أننا إن لم نُوفّر بديلاً شرعياً للتبرع لإنقاذ حياة انسان.. فإن كل تلك النصوص المكتوبة لن يكون لها أي قيمة وستظل مجرد حبراً على ورق، حتى وإن حملت صفة القانون المُلزم، وهو ما يحدث بالفعل حالياً.
سيستمر هذا الواقع إلى أن نصل، طبياً وقانونياً ومجتمعياً، إلى المرحلة التي نصبح فيها قادرين على تأمين البديل الطبي للمشتري/ المُتبرع له كي لا يشتري عضواً بشرياً لإنقاذ حياته وهي أغلى ما يملكه، وكذلك أيضاً تأمين البديل الاقتصادي للبائع/ المُتبرع كي لا يبيع قطعة من جسده الذي لم يعد أغلى ما يملكه!!
د. ابراهيم درّاجي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق