♥️ نستعيد ذكرى الجلاء معكم بهذا خطاب الرئيس الأسبق شكري القوتلي في يوم الجلاء 17 نيسان 1946


 بني وطني

♥️ نستعيد ذكرى الجلاء معكم بهذا
خطاب الرئيس الأسبق شكري القوتلي في يوم الجلاء 17 نيسان 1946
بني وطني:
هذا يوم تشرق فيه شمس الحرية الساطعة على وطنكم، فلا يخفق فيه إلا علمكم، ولا تعلو فيه إلا رايتكم. هذا يوم الحق تدوي فيه كلمته، ويوم الاستقلال تتجلى عزته، يوم يرى الباطل فيه كيف تدول دولته، وكيف تضمحل جولته. هذا يوم النصر العظيم والفتح المبين.
بني وطني:
بعد أن أحمد الله تعالت قدرته على ما وفقنا إليه، أرى لزاماً عليّ في هذا اليوم التاريخي الأغر أن أتوجه، والإكبار يتملكني والخشوع يملأ جوانب نفسي، بالتحية والتمجيد إلى أرواح الشهداء الأبرار الخالدين الأطهار، الذين غرسوا شجرة الاستقلال بيدهم، وسقوها بكريم دمهم، فغدت في هذا اليوم المبارك وارفة الظلال، أصلها ثابت وفرعها في السماء. أولئك الذين ماتوا ليحيا وطنهم، وقضوا لتبقى أمتهم، هم أصحاب الفضل الأول في هذا النصر المحجل. وما يوم الاستقلال هذا إلا عيد الفداء ومهرجان الشهداء، فسلام عليهم في عليّين، وتمجيد لذكراهم في الخالدين.
بني وطني:
أهنئ اليوم هذه الأمة، شباباً وشيباً، هلالاً وصليباً. أهنئ ذلك الفلاح، دعاه داعي الوطن فلباه، هجر مزرعته وتنكب بندقيته، وراح يذود عن أمته ويثأر لكرامته. أهنئ العامل الكادح، يجعل من نفسه لوطنه الفداء، وهو فيما يصيبه لمن السعداء. أهنئ ذلك الطالب، تتأجج روحه حماسة، ويغلي مرجله إباء. أهنئ الأستاذ يبث العزة القومية، والشاعر يهز الروح الوطنية، والكاتب ينافح عن الحق ويشدد العزائم. أهنئ ذلك التاجر طالما غادر متجره احتجاجاً على ظلم صارخ، ودفعاً لعدوان نازل. أهنئ رجل الأحياء تثيره النخوة ويستجيب للحمية. وأبارك للسيدة تؤدي واجبها جهداً وثباتاً وصبراً.
وأحيي بقية السيوف من الأحرار الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فذاقوا حياة النفي والتشريد، وهبطوا السجون كراماً أعزة، وبذلوا الأنفس والأموال والثمرات، وصبروا وصابروا، “فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله، وما ضعفوا، وما استكانوا، والله يحب الصابرين”.
أحييهم جميعاً في شخص الشهيد المجهول، يعمل لوطنه صامتاً أريحياً، ويلقى وجه ربه راضياً مرضياً.
بني وطني:
أتى على الأمة حين طويل من الدهر ران عليها فيه سبات عميق، فقدت فيه سيادتها، وأضاعت مكانتها، وجار عليها وتنافس في التحكم بها أجانب عنها، حتى أوشكت أن تفقد وجودها، وكادت تنسى عربيتها وتذوب في غيرها وتغدو حديثاً يروى، وتاريخاً غابراً يحكى. ولكن أصالة هذه الأمة، وما أودعه الله فيها من أسرار البقاء، وما في بنيتها من مناعة ضد الفناء، جعل من هذه الحقبة الطويلة إغفاءة لا موتاً، وسباتاً لا فناء. فما نفخ في صور القوميات حتى رأينا القومية العربية قبل الحرب العالمية الأولى تهب من رقادها وتشق طريقها، ولقد ولدت حركتها على صورة المطالبة بالإصلاح وغضبة للغة العربية، ثم نمت وترعرعت حتى استولت نشداناً لاستقلال العرب، وجهاداً في سبيله واستشهاداً من أجله.
يا أبناء هذه الأمة:
لقد عرف التاريخ فجر الحركة القومية أسماء جمعيات وأحزاب سرية وجاهرة، أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: العربية الفتاة، والعهد والاستقلال، التي كان لي ولإخواني من رعيل الحركة الأول شرف الانتماء إليها والعمل على تحقيق أهدافها. وبشرت هذه الجمعيات بالفكرة العربية، فلم تكد تنشب الحرب العالمية الأولى حتى تلظى الروح القومي، ورأينا السجون والمنافي تكتظ بالأحرار، ورأينا كيف يكون التنكيل بالأبرار. وهناك على بعد أمتار من هذا المكان، استفاقت دمشق ذات صباح على مشهد صفوف مختارة من رجالات العرب علقوا من المشانق. ولم تكن تلك الأعواد إلا بأراجيح الأبطال، ومنابر الخطباء الصامتين من فحول الرجال، وصار لقضيتنا العربية يومئذ ضحايا وشهداء، فكتب لها في اللوح المحفوظ أن تمضي قدماً نحو النصر والعلاء.
ورأى التاريخ بعد ذلك أمة يعرُب تثور ثورتها الأولى، ورأب أبناءها ينفرون إليها من بطاح مكة وروابي الحجاز، ورأى موجة الأمل تغمر حزون الجزيرة والنجاد، وهرع تلبية لنداء القومية وصرخة العربية فتيان من مختلف أقطار العرب، دخلت كتائبهم دمشق، يقودها فيصل الخالد. ويومئذ اكتحلت العيون بالعلم العربي، يرمز بألوانه إلى دول العرب الغابرة، ويدعو إلى استعادة أمجادهم الزاهرة. ثم تبدت نذر الرغبة إلى استعباد هذا الوطن وتجاهل حقوقه وأهدافه، فسارعت الأمة في الثامن من آذار سنة 1920 إلى إعلان استقلالها، وآلت ألا تفرط بحريتها، وتحدت بذلك كل طامع، وقطعت السبيل على كل متآمر يروم الغض من أمانيها والنزول بمثلها وأهدافها.
ولكن الحرية كانت لا تزال تتطلب المهر الغالي والثمن الرفيع، فما أسرع ما اجتاحت جيوش الطامعين الغاصبين هذا الوطن العزيز. وعلى أشلاء يوسف العظمة ورفاقه الشهداء الميامين في ميسلون، دخلوا هذا البلد الأمين. لقد قوضوا بنيان الدولة الفتية، ونكسوا رايتها، ومزقوا وحدتها، وفرضوا الانتداب البغيض عليها، وافتنوا في التنكيل بأحرارها. وكانوا كلما أمعنوا فيها أذى وعتوا، وساموها خسفاً واضطهاداً، ازدادت على الإرهاق والبطش ثباتاً وشجاعة وإباء، حتى برهنت هذه الأمة العزلاء إلا من حقها أنها أمة لا تكل من التضحية ولا تمل الفداء. أجل، إنها مضت في جهادها، واثقة بأن إيمانها سيصهر حديد الطغاة، وأن قوة عقيدتها وصلابة إرادتها ومضاء عزمها سيجعل من ظلم الظالمين هباء.
تتابعت مواكب الشهداء، وخضب كل شبر من أديم هذا الوطن بالزكي الطاهر من الدماء. وكانت ثورات، لا يكاد يخمد أوار الواحدة حتى تتلظى نار الأخرى. ولم يكن تراجع، إلا أعقبه إقدام، ولا فر إلا تلاه كر.
سلوا هذه الغوطة الفيحاء عن معاركها الشعواء. سلوا جبل العرب الأشم تنطلق منه الثورة الكبرى، يقودها سلطان الأطرش. سلوا ربوع الشمال وجبل الزاوية عن ثورة هنانو، وجبال العلويين عن ثورة صالح العلي. سلوا سهول حمص ووادي حماة، وتلكلخ والمزرعة وحوران. سلوا راشيا والقلمون. سلوا هذه البيوت التي دمرت، والمزارع التي أحرقت، والمتاجر التي نهبت. سلوا المنافي والسجون. سلوا دماء الشهداء أي ثمن دفعناه لاستقلالنا، وأي جهد بذلناه لبلوغ أهدافنا. أجل سلوها: هل ونينا عن دفع الثمن، وهل قصرنا في أداء المهر، وهل خططنا في سفر الجهاد والتضحيات إلا صفحات باهرات نيرات يشع منها نور الحق المبين ويتعالى منها تكبير المجاهدين المؤمنين؟
كان الغاصب كلما آنس من هذه الأمة اندفاعاً في الذياد عن حقها، وكلما أخفق في إدخال الفزع إلى قلوبها والوهن إلى عزائمها، تظاهر باللين تارة وبالجنوح إلى الحق تارة، ثم لا يلبث أن يعود إلى أصل فطرته ويخيس بكلمته. رأيناه يدعو إلى جمعية تأسيسية، حتى إذا رآها تجهر بإرادة الأمة، أغلقها وقضى عليها. رأيناه يعترف للأمة بحق دستورها، حتى إذا ما أشرعته جاء ينتقض بنوده ويعطل أحكامه. رأيناه يدعو إلى الانتخاب الحر، ثم يملي إرادته ويفرض سلطانه. ثم رأيناه سنة 1936، بعد ذلك الإضراب المستطيل، يتظاهر بالصداقة ويعاهد على الاعتراف بالحق، ثم لا يلبث حتى يثير الفتن ويورث العداوات ويروج المفاسد، غير خافر بذمته ولا واف بوعده. ومن فضل الله على هذه الأمة أنها لم تكن في أثناء ذلك كله ترضى بالدون، ولم تكن تؤخذ بالخداع، ولم تسجل على نفسها أنها ارتضت عن كامل حقها بديلاً، وقد عجز الاستعمار عن حملها على قبول وضع يثلم كرامتها والارتباط بعقد يمس عزيمتها.
بني وطني:
لقد نشبت الحرب العالمية الثانية، فكفت الأمة عن مناوئة خصمها، وملكت، رغم استمرار التعنت والجبروت، نفسها. وكان الحلفاء يخوضون غمار حرب فاصلة طاحنة، فوقفت سورية من الدول المتحالفة موقف النصير، وساهمت طوقها في مجهود الديموقراطيات الحربي، ووضعت مواصلاتها ومرافقها ومؤسساتها تحت تصرف سلطات الحلفاء العسكرية. وقد ربطت عملياً مصيرها بمصير الديموقراطيات، وهي في أثناء ذلك كله لم تتوان عن المطالبة بحقها، ولم تقصر في بذل النشاط السياسي للاستفادة من الظروف الدولية السانحة والفرص العالمية المواتية.
لقد كان العمل في الحقل الوطني ـ والحرب حامية الوطيس ـ محفوفاً بالمكاره، مليئاً بالصعاب. وكان الناس يؤخذون بأدنى الشبهات، ويحاسبون حتى على اللفتات؛ ومع ذلك فإننا لم نغفل عن أداء واجبنا في ذلك الآن العصيب والظرف الرهيب، رغم امتلاء السجون واكتظاظ المعتقلات. فقدمنا المذكرات وأذعنا البيانات، ووجدنا في الدول العربية الشقيقة، التي ربطت مصيرها بمصير الديموقراطيات، أصدق العون، وفي الدول المتحالفة الصديقة أقصى النصرة، فاستعادات الأمة وضعها الشرعي، واختارت نوابها، وانتخب رئيس جمهوريتها. على أن الظروف وتطوراتها، والحرب وما رافقها من دعوة إلى الحريات ومبادئ المساواة، وما أصاب فرنسا نفسها من ويلات، لم تبدل يومذاك من ذهنية ساستها وكبار موظفيها، فوجدنا أنفسنا أمام صعاب شاقة وعقبات كأداء، فصرفنا همنا إلى جعل الاستقلال حقيقة راهنة، باستلام الصلاحيات واستخلاص الحقوق التي استمسكت بها فرنسا وعضت عليها بالنواجذ.
لقد رافقت ذلك كله جهود مباركة لجمع شمل العرب وتوحيد كلمتهم وإقامة قواعد جامعتهم، فكان بروتوكول الإسكندرية سنة 1944، فميثاق جامعة الدول العربية سنة 1945، وانتظمت دول العرب في جامعة تعزز كيان كل دولة عربية، وتوطد سيادتها، وتناضل دون كامل استقلالها، وتؤازر الحركات القومية التحريرية في الأقطار التي منيت بالسلطان الأجنبي. وبعد مئات السنين من الفرقة والتخاذل والسيطرة الأجنبية وخمول الذكر وضياع الشخصية، تدوي في مسمع الزمان كلمة العرب موحدة قوية، ويستمع العالم إلى رأيهم الجميع، ويبؤهم لأول مرة اتحادهم المقام الدولي الرفيع. ثم أزفت الدعوة إلى مؤتمر سان فرانسيسكو، فوقفت المساعي المتواصلة التي بذلناها في الحقل السياسي الدولي لدى حكومات الدول المتحالفة ولدى الدول العربية الشقيقة، فدعينا إليه وساهمنا وأربع دول عربية أخرى في وضع ميثاق الأمم المتحدة، وظفرنا بذلك عملياً ونهائياً بإقرار دول العالم إننا أمة مستقلة حرة ذات سيادة تامة. وبينما كنا نسير في موكب الأمم المتحدة، ونجلس في مصاف الدول المستقلة، ونعمل على توطيد مكانتنا، ونلح في المطالبة باستلام جيشنا وجلاء الجيوش الأجنبية عنا، فوجئنا في أيار من سنة 1945 بالمؤامرة المبيتة والخطة الجهنمية المعدة لتقويض كياننا وتدمير استقلالنا، وأطلقت المدافع قنابلها على بيوت الآمنين، وخصت برلمان الأمة بالحمم، وحراسه بالقتل والتمثيل، وراحت الطائرات والقلاع تقصف المدن السورية الأبية، فما وهنت عزائمنا وما لانت قناتنا، بل هب الشعب السوري في مختلف أنحاء سورية يتقلد السلاح ليذود عن الحمى المستباح. وقيل لنا حبذا لو تبرحوا مكانكم هذا، فقلنا أننا ها هنا مرابطون، ولن نبرح مكاننا إلا أشلاء، وللقوة الباغية أن تفعل بنا ما تشاء. وكانت الكارثة محكاً لتضامن العرب ومضاء جامعتهم، وامتحاناً لقوة إرادتهم. وإذ بالأمة العربية كلها تنفر لنصرتنا وتفزع لنجدتنا، وإذا بالرأي العام العالمي، ولا سيما بريطانيا العظمى والولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، تسخط على المعتدي وتنقم منه بغيه وطيشه، وغدا السلام في الشرق الأوسط مهدداً ينذر بالشر المستطير. وهنا يذكر الشعب السوري ما كان لبريطانيا العظمى من موقف مؤثر نبيل إزاء الغدر والعدوان، فاستحقت بموقفها شكر الأمة ومزيد التقدير.
ولقد صبرنا حتى انقلبت النقمة نعمة، وحفر الاستعمار بيده لحده، ومن حالكات تلك الليالي السوداء بزغ فجر هذه الحرية الزهراء، “ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين”. لقد انجلت الغمة عن هذه الأمة، وصدق الله وعده، ونصر جنده، وهزم الطغيان وحده.
إنه لا بد لي هنا من التنويه بموقف الدول المتحالفة، بريطانيا والولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، من قضية استقلالنا. فقد أيدت منذ الأصل حقنا، وسارعت إلى الاعتراف العملي باستقلالنا. وجاء إقرار الدول في مجلس الأمن وجوب الجلاء عن وطننا دليلاً على أن مبادئ الحرية والديموقراطية والمساواة يمكن أن تصبح حقائق راهنة إذا اعترفت للشعوب الصغيرة بحقها في الحرية والاستقلال. وإني لأذكر في عيد الجلاء بالثناء أن بريطانيا العظمى أعلنت منذ الأصل أن جيوشها إنما دخلت هذه البلاد استجابة لمقتضيات الحرب الموقتة وإنها عازمة على سحبها، وقد برّت بوعدها وسحبت جيوشها التي لم تكن في بلادنا غير أداة سلم وطمأنينة. وها نحن أولاء نحتفل هذا اليوم بتحطيم آخر قيد من أغلال العبودية. نحتفل باقتطاف ثمرة جهاد عشرات السنين، فقد غدت البلاد اعتباراً من هذا اليوم مستقلة استقلالاً تاماً ناجزاً، ذات سيادة كاملة غير مشوبة بقيد ولا منقوصة بشرط، وهي في وضع دولي حميد تود لو تهنأ بمثله كثيرات من دول العالم. فاسعدوا به يوماً خالداً مباركاً، وتواصوا فيه بالحق والعمل الصالح، وتعاهدوا متحدين على صيانة استقلالكم وإعزاز رايتكم.
بني وطني:
إن هذا الاستقلال الذي ظفرنا به بفضل جهاد الأمة وقوة عزمها واتحادها، هو أمانة الشهداء في أعناقنا، لنورثه أبناءنا سليماً قوياً محترماً. فعلينا ألا نفرط فيه وأن نتفانى دونه، وأن نحيطه بسياج من دمائنا وأرواحنا، فالاستقلال ملاكه التضحية وقوامه الفداء.
يا أبناء الوطن:
إننا نطوي اليوم صفحة الجهاد في سبيل استقلالنا لنفتح صفحة الجهاد لصيانته وجعله واسطة لإسعاد الأمة ورقيها. وقد تكون صيانة الاستقلال أشق من الظفر به، وليس السبيل إذاً بهين ولا بيسير، وما هو أمام إرادة الأمة بالأمر العسير، فلندرع إذن بالعزم الماضي والإرادة المتينة.
لقد أورثنا فقدان السيادة الوطنية أجيالاً وتحكم الأجنبي فينا قروناً طوال، أمراضاً ثقالاً، فواجبنا أن نعمل على تقوية أنفسنا وإصلاح ما أفسده الاستعمار، واجتثاث بذور السوء التي بذروها في تربة الوطن الغالي. وإذا كنا قد جاهدنا حتى زال الاستعمار، فعلينا أن نجاهد حتى نعفي أثره ونقضي على ما خلفه من أسواء ومفاسد.
كان الاستعمار عقبة كأداء تعترض تقدمنا ورقينا – ولن ترقى أمة مستعبدة ما دامت الحرية عنصر التقدم الأول – ثم ذهب هذا الاستعمار إلى غير رجعة وجلا الظالمون، فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين. وزالت العقبة، وغدونا غير معذورين إذا نحن قصرنا بعد الآن في الجري مسرعين في مضمار التقدم والإصلاح. إننا نودع اليوم عهد الهدم، وقد كانت له سبله وأساليبه، ونستقبل عهد البناء، وله سبله وأساليبه. كنا نقارع بالأمس الأجنبي المستعمر، باعتباره مصدر كل داء وأساس كل بلاء، فصار لزاماً علينا أن نجادل اليوم الفقر، وأن نبدد ظلمات الجهل، وأن نحارب الفوضى والشغب وأن نوطد النظام. علينا أن نكافح العلل الخلقية والنفسية كفاحنا للأوباء الجسيمة. علينا أن نصلح أداة الحكم وأن ننصرف إلى العمران، وأن نعدد الخطوط والبرامج الإنشائية والتجديدية الانقلابية التي تؤدي إلى رفع مستوى الفرد الخلقي والعلمي والاقتصادي والاجتماعي، وأن نفسح المجال أمام الكفايات، وأن نصقل المواهب، وأن نجلو الصدأ عن عبقرية هذا الشعب الذي إذا أتيحت له الفرصة أتى في ميدان الحضارة بما أتى آباؤه الأولون.
علينا أن نرقى باقتصادياتنا، بزراعتنا وصناعتنا وتجارتنا، إلى المستوى اللائق بشعبنا الذكي الفعال. علينا أن نقضي على البلبلة الثقافية والفوضى في مختلف مرافق العمل. علينا أن نصل بهمتنا ودأبنا بين مجد الماضي ومجد الآتي. إنما هذا المجد الذي نريد أن نشيد بنيانه وأن نوطد أركانه إنما تقوم قواعده على تعاون أفراد الأمة، وتكاتف القوم وتوجيه نشاطها نحو إسعاد المجموع وإعلاء شأن الوطن.
إن مثلنا الأعلى الذي نتطلع إليه ليدعو اليوم أبناء هذه الأمة إلى التجرد عن الهوى والترفع عن الصغار، وإيثار المصلحة العامة على الخاصة، والتفاني في رعاية القانون واحترام النظام والولاء للدولة، ومعرفة أن لقاء كل حق للفرد لا بد من واجب عليه.
وتقوم قواعد المجد الآتي من ناحية أخرى على تحلي الحكومة بالعدل مقروناً بالحزم، وبالسهر على مصالح الشعب وتغليب سلطان القانون العادل على كل سلطان، وتنمية الكفايات ومعرفة أن ما كان يجوز في عهد الانتداب والاحتلال قد لا يجوز في عهد السيادة والاستقلال.
وإني لأرجو، على ضوء ما أسلفت، أن نمضي في عهدنا الإنشائي في مساواة لا تفرق بين الأديان والمذاهب، ولا تقيم وزناً لعصبيات الأعراق والطوائف. فنحن حقاً أمة واحدة موحدة، لا أقليات فيها ولا أكثريات.
أما في سياستنا الخارجية، فنمحض دول هيئة الأمم المتحدة أصدق المودة، وستكون صلتنا في ميادين الاقتصاد والثقافة والشؤون المالية الأخرى الصلات التي تقتضيها طبيعة الحياة الدولية وضرورة المساهمة في النشاط العالمي على اختلاف ميادينه وتعدد مناحيه، على أن نقف في ذلك على قدم المساواة مع غيرنا، وعلى ألا تمس سيادتنا الوطنية، وفي نطاق ميثاق الأمم المتحدة، هذا الميثاق الذي دشنا حياتنا الدولية المساهمة في وضعه، وكان الاعتراف العملي باستقلالنا وجلاء القوى الأجنبية عن بلادنا بشير اعتناق الدول لمبادئه وتنفيذهم لأحكامه ورعايتهم مراميه. ونحن في علاقتنا الدولية لن نفرق بين دولة وأخرى، ولن نسلم لدولة ما برجحان أو امتياز ولا بمركز خاص أو ممتاز.
أما صلتنا بالجامعة العربية التي هي حصن العرب المنيع، فصلة الولاء الخالص لمبادئها، والعمل الدائم على ترقيتها وتحقيق أهدافها. فعلى هذه الجامعة المباركة يعقد الرجاء، وبها تناط الآمال، وفيها تلتقي مثلنا العليا، وفي تقويتها وإعزازها وتوطيد دعائمها عزة الجانب ووفرة الكرامة. وبلاد الشام التي كانت مهداً للفكرة العربية في عهدها الزاهر، وحملت رسالة الحضارة بين أولى الدول العربية إلى الآفاق البعيدة، ورفعت راية العروبة إلى ضفاف اللوار وروابي الأندلس وأسوار الصين، لتعلن اليوم أنه تؤمن بالعروبة في أوسع معانيها، وتساهم في إيمان بأداء رسالة العروبة للحضارة الإنسانية، وهي رسالة سامية قائمة على الحق المطلق والسلام العادل. ولقد أعربت عن مشاعركم ورميت عن قوس عقيدتكم حين قلت بالأمس، وأقول اليوم، أننا لن نقبل أن يرتفع علم فوق علم هذه البلاد سوى علم واحد هو علم الوحدة العربية.
وإنه لمن مقتضيات اعتناقنا العقيدة القومية أن تقف سورية من الأقطار والشعوب العربية التي تشكو بعض القيود تقيد سيادتها، وتعمل جاهدة على فكها والانفلات من ربقتها، موقف المتضامن معها، المؤيد الظهير لها، الثابت في نصرتها.
وأما فلسطين العزيزة، الجزء الجنوبي من ديار الشام، فقضيتها قضيتنا، وخلاصها من خطر الصهيونية ركن أساسي من أركان سياستنا، وفي إنقاذها ضمانة لسياسة بلادنا ومستقبل أبنائنا. ونحن مطمئنون إلى تضامن الدول والشعوب العربية في نصرة قضيتها، وإيمان إخواننا العرب من أبنائها سيكفل لعروبة فلسطين بالنصر المؤزر والفوز المبين. إن فلسطين عربية وستظل عربية ولو أطبقت عليها شعوب الأرض.
يا بني وطني:
إن بلاد الشام التي أشرق وجهها اليوم بنور الاستقلال، وتوج مفرقها تاج الحرية، لتبتهج أي ابتهاج بممثلي الدول العربية، ووفود الأقطار الشقيقة يشاركونها اليوم الاحتفال بقيام الجمهورية السورية الفتية، ويضفون على هذا العيد بهجة خاصة فيها كل معاني الجلال. وإنها لا تنسى في زهو المهرجان ما لحكوماتهم وشعوبهم على قضيتها من يد بيضاء، وهي تبعث إلى أصحاب الجلالة والفخامة والسمو، ملوكها ورؤسائها وأمرائها، تحيات الشقيق إلى الشقيق.
إن في اشتراك فصائل من جيوش الأقطار العربية وأسراب من طائراتها لمعاني تقر العيون وتثلج الأفئدة. ففي ذلك معنى تعاهد الجيوش العربية في مختلف أقطارها على الدفاع الموحد المشترك عن حرية كل قطر من هذه الأقطار. وقد رأينا في استعراض الصباح الجندي المصري والجندي العراقي والجندي السعودي والجندي اللبناني والجندي الأردني والسوري، يوحدهم النظام بعد أن وحدهم الهدف وجمعتهم الغاية، فرأينا فيهم نواة الجيش العربي الأكبر، وعاد بنا جلال الموكب العسكري الموحد إلى أزهى عصور التاريخ العربي، يوم كانت أقطار العرب ترسل أفلاذ أكبادها جنوداً في جحافل النصر، تحمل مشاعل الحضارة، حضارة العدل والحق. لقد دل هذا الحشد العربي العظيم على أن مطمح العروبة في توحيد كلمتها صار حقيقة راهنة، فقد انتظمت القلوب قبل أن تنتظم البلدان، ونفذت إلى الأفئدة قبل أن تتجاوز التخوم والحدود. وإنه لمن دواعي سرورنا أيضاً أن يظفر لبنان، القطر العربي الشقيق، بما ظفرنا به، وأن نتطلع من اليوم إلى موعد الاحتفال بجلاء القوى الأجنبية عن دياره، وتتاح لنا مشاركته الابتهاج بعيده الوطني، الذي هو عيدنا، كما أن عيدنا اليوم هو عيده.
ولا يفوتني كذلك أن أنوه بما يخالجني من الابتهاج بحضور ممثلي الدول الحليفة، وأن أبعث إلى شعوبها بتحية الصديق الحر إلى الصديق الحر.
يا أبناء الشام:
لقد بشرنا برسالة الاستقلال، وحملنا أمانة الجهاد لتحقيقه، فتجشمنا كل صعب، ورحبنا بالخطب يتلوه الخطب، ولم يتزلزل إيماننا بحقنا وثقتنا بنصر الله، وبأن المستقبل لنا. ولقد قلت في كلمة وجهتها إلى الشعب في أشد أيام الظلم حلكة وأوغلها اعتسافاً: “إنه مهما كانت الشدائد التي يغالبها القطر الشامي، فإن زماناً أسعد وأهنأ لا بد من أن يدركه ويحيا في ظلاله حياة طيبة”. وقد بلغنا الله هذا الأمل، واحتفلنا اليوم بتحقيقه، وجئنا نتقدم من أمتنا ومن الأجيال القادمة، وكتابنا بيميننا، نعلن أننا قد أدينا الرسالة ورعينا العهد وحفظنا الأمانة.
يا شباب الأمة:
إنكم أمل الوطن المرجى لإسعاده، وعلى سواعدكم وهمتكم يعتمد في تحقيق غايته واستعادة أمجاده.
لقد قضينا شبابنا وبذلنا رونق أعمارنا في أداء أمانة تحرير هذا الوطن، حتى منّ الله علينا بالتوفيق وأقر عيوننا بالنصر. وإنا لنرى من مقتضيات هذا العهد الاستقلالي والدور الإنشائي أن نسعى لتشجيع كفاياتكم، وإعدادكم للاضطلاع بأعباء النهوض بوطنكم. وليس أقر لعيوننا وطمأنينة نفوسنا من أن نرى هذا الوطن غنياً بشبابه العاملين، ذوي العزم الماضي والخلق المتين. فأعدوا أنفسكم لتلقي أمانة النهوض بوطنكم والسمو بأمتكم، وبرهنوا بالعمل المجدي والدأب عليه، الترفع عن الصغير التافه، والتطلع إلى الجيل السامي، إنكم خير من ائتمنه الوطن، وإنكم أهل لاعتزازه بهممكم واعتداده بعزائمكم واستناده لسواعدكم.
يا بني وطني:
يطيب لي أن أتحدث اليوم بنعمة الله عليّ، وأن أعرب عما يجيش في صدري من الحبور وأحسه من السعادة، إذ مد الله في عمري، فرأيت وأخواني، الذين حكم المستعمر علينا منذ ربع قرن بالإعدام لأننا أبينا أن نقر الأذى ونقف على الهوان، وأثرناها على استعماره وطغيانه حرباً مقدسة لا هوادة فيها، رأينا اليوم بفضل جهاد الأمة وتضحيتها كيف يعود الحق إلى نصابه، ورفعنا نحن بأيدينا العلم الذي قدسناه، وشاهدنا بأعيننا هزيمة الاستعمار الذي حاربناه. إننا نشكر لله توفيقه، وللشعب ثباته وصدق بلائه. ونقطعه على أنفسنا عهداً أكيداً أن نحافظ على استقلالنا، وأن نحمي حمى حريتنا، وأن نبذل أقصى الجهد لإعلاء كلمة أمتن،ا ولرفع شأن وطننا، والذود عن رايتنا بدمائنا ومهجنا. والله على ما أقول شهيد، وهو بالنصر المبين كفيل.
دمشق 17 نيسان 1946
شكري القوتلي
*الصورة لطابع تذكاري سوري في ذكرى الجلاء صدر 1957

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق