كتب د. حيان بركات عن الأوراق النقدية السورية
الجزء الأول
تنتشر على مواقع التواصل الاجتماعي بين فترة وأخرى صورة لعملات ورقية استُخدمت في سورية خلال فترة الانتداب الفرنسي، فيلفت نظر البعض عبارة كتبت على هذه الأوراق وهي: " تدفع لحامله لقاء شيك على باريس وقيمة الغرش السوري عشرون سنتيما فرنسيا"، ليصل إلى أذهان الكثيرين ممن ليس لديهم اطلاع على ظروف وأسباب انتشار هذه العملات إلى أنّ هذه الأوراق تشكّل "الزمن الجميل" لقوة العملة السورية.
رغم أنّ الواقع يختلف كليا عن هذا الاعتقاد، فلقرون عديدة لم تعتد منطقتنا على تداول العملات الورقية وإنما كانت عملات الذهب والفضة هي السائدة خاصة في المدفوعات الكبيرة، إضافة إلى بعض العملات من معادن مختلفة للتداولات البسيطة.
رغم ظهور العملات الورقية العثمانية في أوخر عهد الاحتلال التركي، إلا أن تداول هذا النوع من العملات ظل محدودا جدا نتيجة عدة عوامل أهمها الانخفاضات الكبيرة والمستمرة في سعرها، ليظل الذهب والفضة هما وسيلتا التداول الرئيسة في سورية.
بالعودة إلى قصة ظهور العملة الورقية "السورية": كانت بدايتها من رغبة فرنسية في استمرار امتيازاتها في البلدان العربية التي تحررت من الاحتلال العثماني وخضعت للاحتلال الفرنسي، تحت اسم فرنسي، فأنشِئ في عام 1919 "البنك السوري" والذي ليس فيه شيئٌ يخصّ سورية إلا اسمه، وذلك برعاية البنك الامبراطوري العثماني والذي هو عبارة عن شركة تعود ملكيتها بشكل أساس إلى فرنسا وانكلترا، وحاز على جميع الامتيازات التي كان يتملكها ويتصرف بها البنك الأمبراطوري العثماني في سورية، وصدر قرار من المندوب السامي الفرنسي أن يقوم "البنك السوري" باصدار نقد جديد على أساس الفرنك الفرنسي قابلا للاسترداد بشيك على باريس وهذا ما يفسر العبارة المكتوبة على هذه العملات، وأن يكون هذا النقد هو العملة الرسمية في البلاد.
كانت المشكلة الأساس لهذا "النقد السوري الورقي" أنه غير قابلٍ للاسترداد بالذهب مطلقا، وألزمت سلطات الاحتلال الفرنسي السوريين على استخدامه بمجموعة من القرارات الصادرة عن المندوب السامي الفرنسي، وفي الوقت نفسه عملت هذه السلطات على جمع الذهب من البلاد السورية والعمل على إخراجه خارج الحدود، واستبدلته بعملتها الورقية غير القابلة للاسترداد بالذهب، فَتَبِعَت الليرة السورية تقلّبات الفرنك الفرنسي، فكان من نتائج التضخم والعجز المالي في موازنة الحكومة الفرنسية غير القادرة على تغطية مصاريف إعادة إعمار ما دمرته الحرب العالمية الأولى وتكاليف جيوشها، والعجز عن تحصيل التعويضات الحربية من ألمانيا، وزيادة الدين الداخلي، وضعف الثقة بالعملة الفرنسية كون علاقات فرنسا مع بقية العالم وخاصة إنكلترا كانت تمر بمرحلة غير مستقرة، وغيرها من العوامل بأن جعلت الشعب الفرنسي يفقد الثقة بإمكانية استرداد قيمة الفرنك في المستقبل, فعمد الكثيرون إلى إخراج أموالهم إلى بلدان أخرى فزاد الطلب على العملات الأجنبية مما زاد من هبوط الفرنك الفرنسي فرافقته الليرة السورية في هبوطه.
استمر الوضع على ما هو عليه لسنوات عدّة مع بعض التغييرات حتى نالت سورية استقلالها التام في 17 نيسان عام 1946 فكان لا بدّ للحكومة السورية أن تتّخذ مجموعة من الخطوات لتحصل على استقلالها النقدي، وبعد عدة مفاوضات استمرت سنوات للوصول إلى اتفاق نقدي جديد مع فرنسا كان أحد أهدافه خروج سورية من كتلة الفرنك الفرنسي، تحقق ذلك في عام 1949 ليصبح المجال مفتوحا أمام الحكومة السورية لإمكانية استرداد حق إصدار النقد، وليصدر بعد هذا الاتفاق مجموعة من التشريعات من بينها قانون النقد رقم 76 لعام 1950 وكان من أهمّ نتائج هذه التشريعات إصدار أوراق نقدية سورية لا تحمل اسم "مصرف سوريا ولبنان" بل تحمل في أعلاها عبارة "مؤسسة إصدار النقد السوري".
في عام 1953 صدر المرسوم 87 بتاريخ 28 آذار والمتضمن نظام النقد الأساس وإحداث مصرف سورية المركزي والذي هدف إلى إصلاح النظام النقدي المعمول به وتضمن إحداث مجلس يُدعى مجلس النقد والتسليف مهمته العمل على تنظيم مؤسسات النقد والتسليف في البلاد وتنسيق فعاليتها وكذلك تثبيت النقد السوري وتأمين حرية تحويله إلى العملات الأخرى، وإنشاء وتنظيم عمل مصرف سورية المركزي، فأعلن وزير المالية السورية في تموز من عام 1953 أنه سينشأ مجلس النقد والتسليف سريعا، أما المصرف المركزي فسوف يُؤجل نظرا لضرورة المفاوضة بشأنه مع مصرف سوريا ولبنان القائم بالإصدار.
وبهذا تمّ تكوين مجلس النقد والتسليف بشكل فوري، أما بالنسبة لمصرف سورية المركزي فقد تمّ الاتفاق مع "مصرف سوريا ولبنان" في أول أيلول من عام 1955 على إنهاء امتياز إصدار النقد وصدق البرلمان عليه في كانون الثاني 1956، وبتاريخ 21 كانون الثاني من عام 1956 صدر القانون رقم 164 الذي أقرّ اتفاق تصفية امتياز الإصدار الممنوح لبنك سوريا ولبنان (البنك السوري سابقا ومن ثم أصبح اسمه بنك سوريا ولبنان الكبير).
وبذلك خطت سورية أهمّ خطوة من خطوات الاستقلال النقدي، ليصبح لها عملتها الخاصة والصادرة عنها وبدأت إصدار العملات الورقية السورية التي حملت بدايةً بأعلى الورقة عبارة "مؤسسة إصدار النقد السوري" ومن ثم "مصرف سورية المركزي" وهذه العملات هي ما يُمكن أن نطلق عليها اسم عملات سورية فعليا وليس مجرد عملات تمّ تداولها في سورية.
في هذا المقال الذي نُشر في مجلة المقتني العربي والمقالات اللاحقة سوف أقوم بالتحدث بالتفصيل عن تاريخ النقد الورقي السوري، بدايةً من ولادة الليرة السورية الورقية حتى ظهور أولى العملات التي تحمل عبارة "مصرف سورية المركزي"، قراءة ممتعة لمن يودّ أن يعرف المزيد عن تاريخ النقود الورقية في سورية.
حيان بركات
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق