كتبت ناديا خوست: دون أجنحة


كتبت ناديا خوست: دون أجنحة
ناقشت لجنة صياغة قانون الإعلام، في أول سنوات الحرب، حق الإعلامي في الوصول إلى المعلومات بحرية، وحماية حقه في التعبير، واستبعاد المحاكم العادية من الأمور الخاصة بالنشر. لذلك يبدو لنا أن مشروع قانون "الجريمة الإلكترونية"، اليوم، تخلفٌ عما كان يشغلنا أمس. وتبدو التسمية منفّرة، بعد أن عانى الشعب السوري من الجرائم الحقيقية. فهل يستحق ضيق أحد الوزراء برأي المواطنين أن يوضع قانون يحاكم من يعاني من ضيق الحياة وأزمة المواصلات وغياب الكهرباء، إذا صرخ؟ وهل مثل هذا القانون مناسب خلال تسليم أسانج للولايات المتحدة لتنتقم منه على المعلومات التي نشرها؟ ومناسب في وقت يضع فيه مال النفط معايير فنون الكلام؟ هل يعقل أن تقصّ اليوم أجنحة الكلمة، بعد انتشار وسائل الاتصال والمواقع الإلكترونية، والتظاهرات في الساحات، والصرخات في الشوارع، والكتابات على الجدران؟
تحتاج الكلمة إلى أجنحة لتحلّق حرة في الفضاء، حاجتها إلى العقل والأخلاق كي تلامس القلب. الكلمة الصادقة صوت الوجدان. فهل تستطيع أن تواجه اليوم جبهتين: جبهة الخوف من سطوة الفساد، وجبهة إغراء المال؟ ألا تحتاج في هذه اللحظة، الحماية حيث تزهو بكبريائها وأنفتها واستقلالها، ولو بدت أحياناً مشعثة من الغضب، مجنونة من الظلم، مفتقرة إلى الحكمة؟ يستحق إهمال المواصلات العامة طوال عقود، والانصراف إلى تأمين السيارات للنخبة، أن تصرخ وتلوم! فلنهبها الأمان، إذن، ولنوفر عليها القتال في هذه الجبهة! ولننصرف إلى الجبهة الأخرى التي تستنزف ما ربّته مؤسساتنا في سنوات الخير من كفاءات!
فقد رُسم هناك للكلمة أن تغرى بالجوائز، وتزوّد بجواز المرور إلى الأفلام والقنوات التلفزيونية، لتشارك في تفكيك الوعي. تذكر ساندرز أن المخابرات المركزية الأمريكية لاحظت، في منتصف القرن الماضي، قدرة الفن على استبدال الوعي، فموّلت روائيين ومخرجي أفلام ومنظمي مهرجانات وبرامج موسيقية وجوائز في مواجهة الاتحاد السوفييتي. طار الاتحاد السوفييتي، لكن الصراع استمر بأشكال جديدة. وواكبه استخدام الفن في الحروب الجديدة، حتى ليبدو لنا أن هذه الأيام أقسى من جميع الأيام السابقة! لأن العرب الذين كانوا يراقبون الصراع المركزي في المنطقة متفرجين، فقدوا الكوابح بعد تدمير العراق وليبيا، وانصراف لبنان وسورية إلى مواجهة الحرب عليهما. فانحازوا علناً إلى المحتل. في السياق، لم يعد الخجل صفة أخلاقية، ولا المروءة والشهامة للزهو.
وأصبحت الاستهانة بالمثُل القومية الوطنية، وتخريب البنية المؤسسة عليها، طموحاً شخصياً، لا أوامر مخطط خارجي. فاحتفت مذيعات "عربيات" بصورة إلى جانب جنود العدو في الأرض المحتلة، حيث رفضت ملكة جمال اليونان أن تستر الاحتلال باستعراض الجمال.
اعتمد الدهاء الصحراوي سلطة المال. موّل الفضائيات، وفرض موضوعات المسلسلات، واقتنى الفنانين والباحثين الذين درّستهم مؤسسات أكاديمية. الهدف أن يواكب الفن والفكر الانهيار السياسي. فلا يرتفع صوت يذكر الثوابت الوطنية في هذه المنطقة. ويباح علناً توظيف الأموال العربية في الأرض المحتلة، لا في فلسطين أو سورية أو العراق. وتدعم مليارات الدولارات العربية متحف العدو، لا متاحف البلاد العربية المنهوبة.
هل كانت باب الحارة كالمخدر الذي يتعوده المشاهدون العرب، بما فيها من تشويه الشخصيات السورية الشعبية والعلاقات الإنسانية واستغلال جماليات البيت الشامي؟ هل كان تقديم "الدراما التلفزيونية" مكان الثقافة، وتكريس المال والطبول لها، بداية محلية مواتية لزمن يحكمه مال النفط؟ ببرنامج هادئ وضعت الجوائز النفطية معايير الرواية والشعر والبحث. ودفعت المهارة إلى مسار بعيد عن الحاجات الاجتماعية والوطنية والإنسانية. فهل تجسر الكلمة على كشف هذا الاجتياح؟
لن يكف الإنسان عن التعبير عن الوجدان. سيبقى دائماً فدائيون يعبّرون عن روح المقاومة الممتدة من شرق الخريطة الموجوعة إلى غربها. قال الشهيد يحيى شغري وهو يحدق في عيني قاتله: "والله لنمحيها"! ويسلك مساره كثيرون. لكن هذه المقاومة تتضمن، أيضاً، فحص الفساد الذي يستطيع أن يسقط دولاً لا تسقطها الحروب العسكرية. ويستطيع أن يهجّر شعوباً من بلادها ليهب كفاءاتها لدول أخرى. ويستطيع أن يحفر هوة بين السلطة السياسية والشعب.
ناديا خوست

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق