كتبت الأديبة ناديا خوست تفاعلاً مع تدوينة سابقة عن تقلّص المساحات العامة: فضاء المدينة
عبّرت الإعلامية مهى نعامة بايجاز عن غضب عام من الاعتداء على الحدائق. ذكرت المطعم الخاص الذي اقتطع من حديقة تشرين، وحديقة الطلائع المقفلة. لمست ما نلاحظه: الهجوم على فضاء المدينة. اقتطاع المخازن الخاصة من ملعب تشرين، بناء فندق كبير فيه، المخازن والمطاعم التي لا تخجل حتى من التزيّن بأحرف غير عربية في واجهة وزارة الإعلام، و"تشليح" بسطاء الناس مقهى الحجاز المكشوف ليبنى فندقاً للنخبة.
هل نذكّر بأن حدائق المدن وبساتينها تعبير عن رؤية الطبقة أو الفئة التي تدير المدينة؟ لذلك تجري الاحتفالات العامة تحت السماء في أيام الأفراح الكبرى. وتصبح التجمعات في قاعات صغيرة عندما ينصرف الشعب إلى همومه اليومية. تتسع الحدائق حيث يكون الهدف راحة الناس، وتضمر حيث تقتحم المدينة العقارات من جهة وعشوائيات الفقراء من جهة. فنستنتج من جولة فيها حالتها الاجتماعية.
مع ذلك، وصلت الرأسمالية إلى ضرورة الراحة للمنتجين كي يُحسنوا العمل. مدت الحدائق الكبرى، وابتكرت الأعياد الثقافية، وارتقت صناعة السياحة إلى تأمل تاريخ المدن، والتزيّن بالمتاحف، وصعود الجبال، ورُسمت للمشاة إشارات إلى الدروب وسط الغابات، وانشغلت البلديات والمنظمات بمشاريع تنقية الأنهار. وبالرغم من همجية المال في الحرب على بلاد الثروات الحيوية، تجاوز في بلاده المرحلة التي عبر عنها "موليير" في مسرحياته. وفُرضت معايير صارمة لحماية الغابات والأرض الزراعية وهوية المدينة وفراغاتها، واتسعت المساحات المخصصة للمشاة.
نتساءل إذن: هل نحن في مرحلة هجوم المال الهمجي على المدن والريف؟ لماذا تُترك أرض معرض دمشق الدولي خراباً، مع أن الرئيس حافظ الأسد رفض بناء بانوراما تشرين فيها، ورفض بناء فندق ايبلا فيها، وقال إنها للشعب؟ ولا شك في أنه قدّر تاريخها، ففيها جرى أول احتفال بالجلاء، والتدريب على المقاومة الشعبية خلال حرب السويس. وفيها صدحت فيروز، وقدمت فرق البلاد الاشتراكية فنونها، وكانت تغمر بالأفراح أهل المدينة. ولماذا تهمل حديقة الطلائع؟ هل عيون العقاريين تحوم هناك؟
يُستعاد الأمن الاقتصادي والاجتماعي بالاستثمار في الصناعة والزراعة، بمعامل عصائر الفواكه التي حرم منها الساحل السوري، بمزارع الأبقار، بالصناعة، بإحياء المعامل المدمرة. بمشاريع الإنتاج، ومشاريع الراحة للمنتجين، لا بفنادق ومطاعم الأغنياء.
في سنة 2018 نشرتُ مسرحية "منطقة آمنة". أقتطف منها المشهد الآتي:
المشهد السابع والعشرون،
عجوزان، ورجال.
(في خلفية المسرح صورة أبنية مدمرة. في طرف خشبة المسرح تنكة فيها أخشاب تحترق، يتدفأ عليها عجوزان).
العجوز الأول: ظننت أني سأموت من البرد. لكن الشتاء انتهى وبقيت حياً. في الحرب تزوجت ابنتي رجلاً لا أعرفه. سألتها: تحبينه؟ قالت: من يفكر بالحب في الحرب؟! أتزوجه لتتحسن أحوالنا. يلعب المسلحون بالسكر والرز، ويوزعون الأشجار التي قطعوها حطباً. نبهتها: أخوك يحارب مع الجيش. مهما خفتُ على صهري أخاف على ابني أكثر.
الحقي زوجك! هذا أفضل لك ولي! رحلت من البيت وانقطعت أخبارها. لا تصدقني إذا قلت إني لست حزينا عليها! ستنتهي الحرب. لكن حتى الآن، لا ابني رجع، ولا وصلني خبر عن ابنتي. كبرتُ في سبع سنوات أكثر من سبعين سنة. في هذا العمر من أسأل عن المفقودين؟ سأقول مرفوع الرأس: خبروني عن ابني الذي دافع عن الوطن! ولكن لمن أقول: خبروني عن ابنتي التي تزوجت مسلحا من المسلحين الذين خربوا البلد؟
العجوز الثاني: إذا عرفتَ مصائب غيرك هانت عليك مصيبتك. كنا في الطريق، أنا وزوجتي وابناي وابنتي. أنزلنا خمسة، ستة رجال من السيارة، شلّحونا ما في جيوبنا، اغتصبوا زوجتي وابنتي. اندفع ابناي ليخلصوهما فقتلوهما وقتلوا السائق. ركب المسلحون سياراتهم وبقينا في الفلاة. ارتميت على الشابين أبكيهما، زوجتي تنهضني وابنتي تبكي علينا. كسرتني المصيبة. كأني ميت. بقي لنا ابن هو أكبر أولادي. خابرنا فشكوت له مصيبتنا. طار عقله وقرر أن يقتل أخته. صرخت فيه: يامجنون، تقتلها لأنهم لم يقتلوها؟ لا تزد همنا! لو كنتُ شابا لتطوعت في الجيش لأحارب اولئك الأنذال. تطوع ياابني بدلا من أبيك! هكذا تنتقم لأختك!
العجوز الأول: فهم كلامك؟
العجوز الثاني: لا أعرف. هربنا من البيت. قلبي يوجعني على الصبية! منذ الحادثة لا تقع عيني على عين زوجتي أو ابنتي. قلبي مكسور. أخاف أن يخلع اولئك الأنذال ملابسهم ويعيشوا بيننا. ستنتهي الحرب، سيفقدون من شغّلهم. إذا لم يلتحقوا بجيش خارج البلد قد نصادفهم بيننا.
العجوز الأول: قد يصبحون عصابة حرامية.
(يستمر العجوزان في الحديث دون صوت. الضوء على رجل وراءه ثلاثة رجال).
المستثمر: (يتفرج على الأبنية المدمرة) مكان مفتوح على عرضه للشغل. لكن لن أغامر في عمليات البناء. هذه شبكة، فيها محافظات وبلديات، وفيها أصحاب البيوت التي صارت الخرائب في عيونهم كنزاً. في عمليات البناء يدك دائماً على جيبك، إكراميات، رشوات، اعطني أعطك، مرر لي شارعاً هنا، ضع لي حديقة هناك، ارفع هذا البناء عشرة طوابق، خفض ذلك البناء طابقين..
الرجل الأول: نحن نكفيك وجع الاتفاقات.
الرجل الثاني: في النتيجة يدفع المستهلك ما تصرفه على الإكراميات.
المستثمر: المطعم مشروع مقبول، مع أن له مشاكله، والبلد امتلأت بالمطاعم.
الرجل الثالث: اختر المكان، ونحن نقوم بالباقي. عندك طباخ، لا تزفّر يديك!
المستثمر: هنا كانت حديقة. هذا مكان مناسب. مفتوح.
الرجل الأول: معلوماتي تقول قطع شجر الحديقة للتدفئة خلال الحرب. لكن الحديقة باقية. حضّر مدير الحدائق نصبات ليغرسها فيها.
الرجل الثاني: (كمن يشير إلى واجهة الحديقة) هذا مكان مناسب. نأخذ واجهة الحديقة. ننصب للمتنزهين الفقراء كوخ بائع ساندويش وفلافل، ونبني للأغنياء مطعماً يضع الحديقة بين أيديهم من وراء الزجاج. لا يشعرون بالبرد ولا بالحر، ولا يبتلّون بالمطر.
المستثمر: (مفكراً) موافق. دبّروا واجهة الحديقة بإكرامية مناسبة.
الرجل الثالث: أمرك سيدنا!
الرجل الأول: اعتبر المسألة منتهية، كأنها في جيبك!
الرجل الثاني: تحت يدي مهندس ديكور صاحب ذوق. يعمل لك مطعماً غربياً إذا أردت، أو شرقياً كقصر من ألف ليلة وليلة، أو باريزياً أو صينياً.
المستثمر: هاته! اتفقنا، على بركة الله! لكن لا أريد ضجة واحتجاجات تصرخ "بلع الحديقة العامة"!
الرجل الثاني: اطمئن. الصحافة مشغولة بأمور أخرى.
المستثمر: (يلتفت بدهشة) بماذا تنشغل؟
الرجل الثالث: لا نعرف. منذ أشهر لم أر جريدة.
المستثمر: اتفقنا، على بركة الله!
ناديا خوست.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق