عن سورية والديون العمومية العثمانية
كتب د حيان بركات:
يهتم جامعو الطوابع السورية بكافة أنواع الطوابع بما في ذلك الطوابع المالية، من بين هذه الطوابع ظهرت مجموعة كبيرة في بدايات القرن العشرين وشحت بعبارة "الديون العمومية" فما هي قصة الديون العمومية؟، في هذه المقالة التي اعددتها من مجموعة مصادر سوف أوضح بشكل مختصر قصة هذه الديون.
سورية والديون العمومية العثمانية
لا اعتقد بوجود أحد لم يسمع بالحرب العالمية الأولى وما نتج عنها من انهيار دولٍ وتشكّل دول جديدةٍ بحدودٍ وضعتها الدول المنتصرة في تلك الحرب.
وقد يعلم الكثيرون أن حدود سوريا بالشكل الحالي هي إحدى نتائج الحرب، لكن هذه النتائج لم تقتصر على التغيرات في الحدود أو استيلاء الدول المنتصرة على المشرق العربي، وإنما كان لها نتائج كارثية على اقتصاديات الدول الناشئة ومن بينها سورية من خلال تحميلها مبالغ كبيرة من ديون الدولة العثمانية وتكاليف حروبها والتي كان من الممكن أن تظل سورية تدفعها لعشرات السنين التالية، فما هي قصة هذه الديون، ولماذا فرضت الدول الاستعمارية على سورية دفعها؟ وكيف انتهت قصتها؟
على مدى عشرات السنين وقبل انهيارها اعتادت السلطنة العثمانية على الاستدانة من الدول الغربية بداية من حرب القرم عام 1854 بهدف تغطية النفقات الحربية، لكن أغلب هذه القروض كانت تُصرف باستخدامات أخرى كتشييد القصور وضمان حياة البذخ التي يعيشها السلطان العثماني وحاشيته.
كانت هذه القروض مجحفة وبفوائد عالية تُقتطع قَبل تسليم القرض، وكانت تخصّص في كثير من الأحيان مداخيل جمارك الأقاليم العثمانية كضمان لتسديد هذه القروض، وقد لعب المصرف العثماني (مصرف فرنسي إنكليزي) دورا كبيرا في استعباد السلطنة ماليا وقام هو بنفسه بمنح القروض المجحفة أو التوسط في الحصول عليها من مصارف أخرى.
ونتيجة لذلك أعلنت الدولة العثمانية إفلاسها عدة مرات، حتى جاء عام 1881 حيث أصدر السلطان العثماني وفقا لطلب الدول الكبرى (المدينة للسلطنة) ما عُرف باسم "مرسوم محرم" والذي رسخ الرقابة الأجنبية على مالية الامبراطورية العثمانية، وبغية إدارة الدّيْن الذي عجزت السلطنة عن تسديده تأسست إدارة خاصة بِدَيْنِ الدولة العثمانية وكانت هذه الإدارة تُعتبر ظاهريا كمؤسسة عثمانية إلا أنها كانت في الحقيقة تحت سلطة المصارف الفرنسية والإنكليزية والالمانية والنمساوية-المجرية والإيطالية، ومنحت إدارة الدّيْن عدة موارد من دخل الحكومة العثمانية لإدارتها كامتياز وتوزيع المتحصلات منه على السلطنة (كاحتكار الملح، ورسوم المشروبات الكحولية ورسوم الطوابع والصيد البحري، وإدارة حصر التبغ وغيرها الكثير)
وبعد احتلال سوريا من قبل فرنسا عام 1920، قامت السلطات الفرنسية بوضع يدها على أهم موارد البلاد وهي واردات الجمارك وجعلت منها رهنا لوفاء الديون العمومية العثمانية لفرنسا إلى أن تُحل قضية الديون العمومية، بالإضافة إلى استمرار إدارة حصر التبغ لعدة سنوات بدفع جزءٍ كبيرٍ من أرباحها الصافية لصندوق الدين العام.
بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى لم يعد للدولة العثمانية وجود كدولة واحدة بل أصبحت مجموعة من الدول، فنصت معاهدة لوزان (1923) التي فرضها الحلفاء المنتصرون في الحرب أن تتحمل هذه الدول أعباء الديون العثمانية، وتضمنت هذه المعاهدة المبادئ التي بموجبها ستُوزع الديون العثمانية بينها وذلك على أساس المعدل الوسطي لواردات كل بلد وذلك في الأعوام التي تسبق اندلاع الحرب.
اجتمع مجلس الديون العثمانية وأعلن نتيجة التوزيع الذي نصت عليه معاهدة لوزان، فاعترضت الدول ذات العلاقة ومن بينها سورية، وبعد عدة جولات من المفاوضات مع الوفد السوري المكون من وزيري المالية والاقتصاد السوريين في باريس وجنيف واستانبول تم الاتفاق أن يتم تخفيض حصة الدويلات السورية من الديون فلحق بسورية دين يقارب 11 مليون ليرة تركية من مجموع الدين كله والمقدر بما يقارب 130 مليون، أي 8.4% من مجموع الدين، وتم وضع جدول بالأقساط السنوية المستقبلية المتوجّبة على سوريا ولبنان تحت الدين العام العثماني بحيث تمتد هذه الاقساط 87 عاما من سنة 1925، ليتناقص هذا المبلغ تدريجيا حتى يتم تسديده بشكل كامل بقسط عام 2012.
في عام 1926 تم الاتفاق على أن تخصص صافي الواردات من رسوم الجمارك في سورية كضمان للدين، وكذلك تم الاتفاق على أن تعامل سورية المعاملة نفسها التي تعامل بها تركيا فيما يخص الديون العمومية العثمانية.
توصلت تركيا في عام 1928 إلى عقد اتفاق مع ممثلي الدين العمومي ينظم نصيبها من الدين، وعلى هذا الأساس عقدت سوريا ولبنان في العام الذي تلاه اتفاقا مشابها في باريس، نص على أن تدفع سوريا ولبنان ضمن مدة يمكن أن تمتد 87 عاما الأقساط السنوية مقدره على أساس أن الليرة التركية الذهبية تساوي أكثر بقليل من 112 فرنكا فرنسيا، وفقا لخمسة مراحل تمتد من عام 1929 إلى أن يستهلك الدين، على أن تدفع سوريا حصتها من واردات الجمارك القسط السنوي إلى البنك السوري (بنك فرنسي وريث البنك العثماني في سورية) ليسجلها في حساب صندوق الدين العام، وبذلك حُرمت من أهم مواردها الاقتصادية.
طالبت تركيا بتعديل الاتفاق المالي مرة ثانية، وتوقفت عام 1930 عن تنفيذ الاتفاقية التي وقعتها سابقا بعد أن دفعت جزءا من القسط السنوي الثاني، فنتج عن ذلك انخفاض كبير في قيمة أسهم شركة الدين العمومي في البورصة، فقامت سوريا ولبنان عن طريق المفوض السامي الفرنسي بشراء كميات كبيرة من أسهم هذه الشركة بأسعار منخفضة، وبذلك استهلكتا جزءا هاما من أسهم الدين، كما قامت المفوضية الفرنسية بشراء حصة سورية ولبنان من أسهم "قرض بغداد الثالث" العائدة لصندوق الدّيْن بمبلغ يقلّ كثيرا عن قيمته الأصلية وذلك من أموال المصالح المشتركة، وذلك بهدف انقاذ مصالح حملة الأسهم خوفا من انهيار كامل لقيمته.
دخلت بعد ذلك الحكومتان السورية واللبنانية بمفاوضات حاسمه مع ممثلي الأسهم بهدف تصفية الدين من أساسه وتوصلوا عام 1933 إلى اتفاق يقضي بتبرئة ذمة سورية ولبنان من مجموع الديّن العام بعد دفع مبلغ يقارب 33 مليون فرنكا وهو عبارة عما تبقى من دين على سورية بعد حسم 7.5%، ودفع هذا المبلغ من ميزانية المصالح المشتركة. وبذلك بلغ ما دفعته الدولة السورية لحساب الديون العثمانية العمومية ما يزيد عن 153 مليون فرنكا فرنسيا.
لاقى الاتفاق السابق اعتراض العديد من الشخصيات والسياسيين السوريين واعتبره الكثيرون مجحفا بحق سورية، ويظهر هذا من خلال ما كتبه عبد الرحمن الكيالي في كتابه: "المراحل" والذي ذكر فيه أن التزام الحكومة في ذلك الوقت ووزير ماليته باتفاقية الديون العامة دون غيرها من حكومات الدول التي كانت جزءا من الدولة العثماني وحتى دون التزام تركيا بحد ذاتها سببه الرئيس أن الاحتلال الفرنسي هو صاحب معظم هذا الدين وهو الواضع يده على أموال سورية من خلال تحكمه بأموال المصالح المشتركة، وهو من أمر وزير المالية السورية بالالتزام ببنود الاتفاق.
المراجع:
إسماعيل، حكمت علي. نظام الانتداب الفرنسي على سورية 1920-1928 بحث في تاريخ سورية الحديث من خلال الوثائق. دار طلاس، دمشق، 1998.
حمادة، سعيد. النظام الاقتصادي في سوريا ولبنان. جامعة بيروت الأميركية، 1936.
حمدي النصر. تقرير بأعمال وزارة المالية في الدولة السورية في عهد وزير المالية السابق حمدي النصر، بلا دار نشر، 1928.
السباعي، بدر الدين. أضواء على الرسمال الأجنبي في سورية (1850-1958). دار الجماهير، 1967.
الكيالي، عبد الرحمن. المراحل في الانتداب الفرنسي وفي نضالنا الوطني من عام 1926 حتى نهاية عام 1939. الجزء الأول، مطبعة الضاد حلب، 1958.
لوتسكي، فلاديمير بوريسوفيتش. تاريخ الأقطار العربية الحديث. ترجمة عفيف البستاني، دار الفارابي، الطبعة السابعة، حزيران 1980.
د. حيان بركات
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق