سورية الجمهورية، من البرلمان إلى الرئاسة (1)


دوّن عبد الله الجدعان:
سورية الجمهورية، من البرلمان إلى الرئاسة (1)
مع اقتراب الانتخابات الرئاسية السوريّة يدور حديث حول نظام الحكم الجمهوري الرئاسي في البلاد والمفاضلة بين محاسنه ومساوئه، وهذا الحديث ليس بجديد بل كان مرافقاً لسنوات الأزمة العشرة وأيضاً ورد ذكره في مناقشات اللجنة الدستورية حيث يأمل بعض أعضائها والدول الداعمة لها إدخال تعديلات عليه تحد من صلاحيات رئيس الجمهورية وتنقلها للحكومة أو البرلمان.
ولكي نحاول أن نتعرف أكثر على السياق الذي أوصل البلاد إلى الشكل الحالي من الحكم يجب علينا أن نتتبع تطور الحِراك السياسي فيها، سورية واحدة من أكثر الدول تأثيراً وتأثراً سياسياً على مستوى المنطقة (ما يسمى الشرق الأوسط) ويعود ذلك إلى مجموعة عوامل منها الموقع الجيوسياسي الذي تشغله وتجربتها السياسية المبكرة وأيضاً تبنيها للتيار القومي العربي التقدمي الذي برز منذ أيام الاحتلال العثماني واستمر بزخم أكبر في فترة الانتداب الفرنسي وصولاً إلى نيل البلاد لاستقلالها وإلى لحظتنا الراهنة.
النظام البرلماني الذي يتسم بالديمقراطية كان مناسباً للبلاد ولظروفها السياسية والاجتماعية في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، فالاستقلال وجلاء القوات الفرنسية حفّز النخبة السياسية على ترسيخ دعائم هذا النظام لما كان لآمال بناء الدولة الحديثة التعددية مكانة في نفوسهم ومحاولةً منهم لمحاكاة تجارب الدول المتقدمة حيث أن جزءاً منهم كان خريجاً من جامعات غربية فتأثر بتجربة هذه الدول وعمِل على اسقاطها على سورية، لذلك تم صياغة دساتير تعزز الحريات العامة و تشكلت أحزاب جديدة (كالبعث العربي والعربي الاشتراكي) وعادت أحزاب أخرى للساحة (القومي السوري والشيوعي) لتنافس آنذاك الهيمنة التقليدية للكتلة الوطنية (اليمين السوري)، وهكذا نشطت الحياة السياسية بزخم كبير وتبوأت سوريّة مكانة تنويرية رئيسة بين الدول العربية.
إلا أن الصورة ليست وردية بالمجمل وكان هناك العديد من العيوب التي شابت هذا النظام وتطبيقه مما أدى بالبلاد إلى أوضاع سياسية واقتصادية واجتماعية بالغة التعقيد، حيث أن بيئة الحكم هذه على ما حملته من ترسيخ للممارسة الديمقراطية البرلمانية والمشاركة والرقابة الشعبية على الأداء الرئاسي والحكومي، وأعطت الأحزاب القدرة على العمل بشكل واسع.
إلا أن السم كان في العسل وحمل هذا الانفتاح كان في مكان ما تفلتاً وثغرةً جعلت البلاد تدخل في سنوات طويلة من الاضطرابات المتتالية ذات المنشأ الداخلي بسبب الصراعات على الحكم بين الأحزاب وخاصة بين التقليدية المحافظة منها والتقدمية الاشتراكية، ومن جهة أخرى بين المحاور الإقليمية والدولية، المصري السعودي من جهة، والتركي العراقي من أخرى.
وهذا أفرز واحدة من أبرز ملامح هذه المرحلة والتي هي تشكّل دور سياسي بارز للجيش وتدخله بشكل مباشر في الحكم فعاشت البلاد بسبب ذلك فترة انقلابات قادها العسكر والتي افتتحها قائد الجيش الزعيم حسني الزعيم عام 1949 ولم تنتهِ مع الانقلاب العسكري على أديب الشيشكلي عام 1955 والذي بالرغم من أنه أعاد الحياة السياسية للبلاد وجرت انتخابات رئاسية في ذات العام عاد بموجبها الرئيس شكري القوتلي للحكم (الذي انقلب عليه الزعيم بسبب سياساته الداخلية والهزيمة في حرب فلسطين 1948)، إلا أن الجيش بقي صاحب كلمة مسموعة وعامل ضغط السياسيين وموجه لتحالفاتهم وإن كان هناك أي تعارض بين توجهات الاثنين كانت الغلبة للجيش وإن لم يكن عبر انقلاب كما مضى.
وأبلغ مثال على ذلك أنه في عام 1958 عندما تلكأت الحكومة في العمل على إقرار الوحدة مع مصر أقدمت قيادة الجيش على الاجتماع واختيار وفد منها سافر إلى مصر وقابل الرئيس عبدالناصر وعرض عليه الوحدة دون علم الحكومة ورئيس الجمهورية في سابقة فاجأت حتى المصريين واضعاً بذلك السياسيين السوربين أمام أمر واقع أجبرتهم في النهاية على قبول الجمهورية المتحدة بشكل ارتجالي أدى في النهاية إلى الانفصال وعلى يد الجيش نفسه الذي دعى وضغط باتجاه الوحدة.
مما لا شك فيه أن الفترة التي كانت فيها سورية تحت الحكم البرلماني كانت ملفتة رغم ما شابها مما ذكرنا وطرح العودة إليها كلياً أو جزئياً من خلال تعديل الدستور الحالي أو إعداد بديل عنه ليس من الخيال بمكان، ولكن علينا أن نعي القيود والتحديات وأيضاً الفرص والمؤهلات التي تجعل تكرار هده التجربة أكثر نجاحاً من سابقتها وأكثر تلبية لطموح الشعب من النظام الرئاسي الحالي وهذا ما سنحاول استكمال الإجابة عليه في المرة القادمة.
عبد الله الجدعان
*الصورة من جلسة للبرلمان مع خطاب الرئيس شكري القوتلي في 1943


 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق