دروس التاريخ: عن رهانات الانفصال في الجزيرة السورية


دروس التاريخ: عن رهانات الانفصال في الجزيرة السورية
عقيل سعيد محفوض
ما يحدث اليوم في شرق الفرات أو منطقة الجزيرة، حدث ما يشبهه في ثلاثينينات القرن العشرين إبان الانتداب الفرنسي على سورية.
*عملت فرنسا 1920-1932 على تهيئة الظروف لإنشاء أقضية ذات كيانية إدارية شبه مستقلة ذاتياً،[i] وذات طابع إثني في مناطق الحدود مع تركيا، في جرابلس وعفرين، ثم في الجزيرة بين عامي 1930-1932. وجاءت الخطوة الفرنسية كما لو أنها استجابة لمطالب محلية: عرائض رفعت في الفترة 1924-1928، تضمنت –بحسب عريضة كرداغ- المطالبة بـ "منح الحكم الذاتي لكافة المناطق ذات الأكثرية الكردية، أي المنطقة الكاملة التي تقع على الحدود السورية-التركية".[ii]
وكتبت ثريا بدرخان إلى وزارة الخارجية الفرنسية تطالب فيها بـ "الحكم الذاتي المحلي في المناطق الكردية (و) اعتماد التدريس باللغة الكردية في المدارس الموجودة في هذه المناطق، واشتراط أن تكون جميع الكوادر الحكومية فيها من الكرد، وتكوين فوج من الجنود يكون كردياً صرفاً لحماية الشريط الحدودي مع تركيا. وطالبت المذكرة أيضاً بمعاونة فرنسية لاستيطان كرد في منطقة الحسكة".
*في عام 1927 اهتمت فرنسا بتنشيط المعارضة الكردية في تركيا، ورعت اجتماعاً لجمعية "خويبون" (أي الاستقلال) مع حزب الطاشناق عُقِدَ في بحمدون (لبنان)، تعهدت فيه الجمعية بالعمل على إقامة دولة كردية في شرق الأناضول تكون تحت الانتداب الفرنسي أو البريطاني، وأنها "ستحض الكرد ضمن الحدود العراقية والسورية على إطاعة القانون".
لكن الجمعية أو قيادات فيها (آل بدرخان) بدلوا أولوياتهم في العمل، وركزوا أهدافهم على إقامة دولة كردية في الجزيرة السورية وأجزاء من الموصل (العراق) ومناطق كردية من شرق الأناضول (تركيا)، وسوف يكون ذلك سبباً في طرد البدرخانيين من الجمعية، واتهامها لهم بتسريب الخطط والوثائق للمخابرات التركية.
*قدم محمد كرد علي، وكان وزيراً للمعارف في حكومة تاج الدين الحسيني، تقريراً عن جولته في منطقة الجزيرة، قال فيه:
"ان معظم من هاجروا إلى تلك الأرجاء هم من العناصر الكردية والسريانية والأرمنية والعربية واليهودية. وجمهرة المهاجرين في الحقيقة هم من الأكراد نزلوا على الحدود. وإنني أرى أن يسكنوا بعد الآن في أماكن بعيدة عن حدود كردستان، لئلا تحدث من وجودهم في المستقبل القريب أو البعيد مشاكل سياسية تؤدي إلى اقتطاع الجزيرة أو معظمها من جسم الدولة السورية، لأن الأكراد إذا عجزوا اليوم عن تأليف دولتهم فالأيام كفيلة بأن تنيلهم مطالبهم إذا ظلوا على التناغي والإشادة بقوميتهم". (دمشق في 8 رجب 1350- 18 تشرين الثاني 1931 ـ وزير المعارف. انظر مذكرات محمد كرد علي، ج2، ص 436.
يضيف كرد علي في موضع اخر من مذكراته، يقول: "تعلم بعض أبناء الأكراد فقويت فيهم نزعات القومية، وأخذوا يتناغون بالاستقلال، وما خلوا من غريب يحسن لهم قيام دولتهم ويعيدهم ويمنيهم بتحقيقها فكان من ذلك أن ضُربوا في تركيا والعراق ضربة قاسية هلك فيها ألوف من رجالهم، وخرب الترك ثورتهم وأتوا على ثروتهم، فاضطر الأكراد إلى إرجاء حل مسألتهم إلى أن تسالمهم الأيام".
*في حزيران/يونيو 1932 نظم أعيان كرد ومسيحيون عرب عرائض تتضمن مطالب بـ "إقامة حكم ذاتي كردي-مسيحي في الجزيرة تحت الانتداب الفرنسي"،[iii] لأنهم ينتمون إلى "العرق الآري"، وأن ذلك سوف يخلصهم من الإدارة الحكومية، المركزية أكثر من اللازم، والفاسدة والمتشككة، والتي فشلت في الاستجابة لمطالبهم،[iv] والموظفين المتعسفين في موضوع المهاجرين، وأن "العشائر التي تستوطن المناطق المحاذية للخط الحديدي ستقوم بترك تركيا، وستنضم إلى أبناء عشائرها الذين يتواجدون من قبل في الجزيرة، وسوف يجلبون الاعتراف لهذه المنطقة غير المأهولة".[v]
واصل أعيان الجزيرة من الكرد –وأعيان ورجال دين من السريان- القيام بأنماط مختلفة من الضغوط من أجل إقامة كيانية أو دولة في الجزيرة، وظهر ذلك جلياً في مفاوضات فرنسا مع القيادات والحكومة السورية التي أدت إلى اتفاقات 1936.
كان الوضع في الجزيرة أكثر تعقيداً، ولم يستمر الاستقطاب على أساس إثني أو ديني خالص، إذ إن القوائم والتحالفات الانتخابية كانت تضم كل الأطياف تقريباً، ومنهم الكرد الذين انقسموا بين مؤيد لـ الكتلة الوطنية ومؤيد لـ الكتلة الانتدابية، حيث دعمت عشائر عامودا الكردية (ماعدا عشيرة المرسينية) قائمة الكتلة الوطنية، كما انحازت قيادات جمعية خويبون إلى الكتلة الوطنية، ولو أنها غيرت موقفها لاحقاً.
حدثت اضطرابات في الإقليم كان من عواملها الصراع بين الوطنيين والكيانيين، ولم تكن الاستخبارات الفرنسية غائبة عن إدارة الاحتجاجات، وخاصة أن المحتجين طردوا المحافظين والمسؤولين والموظفين المركزيين، وأعلنوا مطالب بـ"إدارة ذاتية" أو "حكم خاص بهم" تحت الانتداب الفرنسي.
بالمقابل قام قادة الكتلة الوطنية، والمؤيدون لهم، وفيهم كرد وعرب وغيرهم، بتنظيم حركة مقاومة للانفصال، وأعلنوا مقاطعتهم لمدينتي الحسكة والقامشلي بسبب "خيانة سكانهما للقضية العربية"، حيث اتخذ الاستقطاب طابعاً ريفياً–مدينياً، ريفياً يدعم الوحدة الوطنية، ومدينياً ناشئاً يؤيد الانفصال.
في 15 تموز/يوليو 1937 ألفت الحكومة لجنة حكومية سورية-فرنسية مشتركة للتحقيق في "حوادث الجزيرة". وقد وجدت الانفصاليين متمسكين بمطالبهم ذاتها.[vi] وعندما توجه وزير الداخلية سعد الله الجابري إلى الجزيرة (20 تموز/يوليو 1937) رفض المتمردون استقباله وأقاموا حواجز لمنعه من الدخول إلى الحسكة.
*وفي 21 تموز/يوليو وجه المفوض السامي الفرنسي "تحذيراً شديداً إلى المتمردين بالإقلاع عن مطالبهم الانفصالية، وبأن حقوق الأقليات مكفولة بحسب الدستور، وأنه يرفض أن تخرج حوادث الجزيرة عن "صفتها المحلية" إلى مطالب "الاستقلال الموضعي"، ... وأن المفوضية ستقاوم كل حركة "استقلال موضعي"،[vii] لكن الاستخبارات الفرنسية واصلت التحريض على الانفصال.[viii] وشكل المتمردون "اللجنة التنفيذية في الجزيرة"، وكانت مؤلفة من سريان وأرمن وعرب مسيحيين وعرب مسلمين، ويرأسها كردي.[ix]
أخذت التطورات تسير عكس ما يريد الانفصاليون، إذ برزت انقسامات بين الانفصاليين أنفسهم، وخاصة بين الكرد والسريان، ثم بين الكرد وبين القوات الفرنسية، وحدثت اضطرابات ومواجهات حادة، وتراجع التأييد الكردي للحركة الانفصالية، وخاصة أن "كرد الدواخل" لم يؤيدوا الانفصال، كما برزت لدى الكرد مخاوف من تدخلات تركية متزايدة، وزادت مدارك التهديد لدى الانتداب الفرنسي، إلخ
أدت الاضطرابات إلى وقوف الأرمن على الحياد، وكذلك فعل الأشوريون، فيما اتخذ السريان من الأحداث عنواناً لمطالب "الانفصال"، مُستغلين وجود تيارات مؤيدة لهم داخل فواعل القرار في فرنسا.
غير أن تطورات الأمور اتجهت لتعزيز موقف دمشق تجاه الجزيرة، وزادت مؤشرات التمسك بها، مع تزايد التعاون الفرنسي مع الحكومة بهذا الخصوص، وإذ أرسلت فرنسا مؤشرات علنية –ولو أنها لم تكن نهائية أو حاسمة- على اهتمامها بالاستقرار ووحدة سورية.
*في أواخر تموز/يوليو 1938 انعقد "مؤتمر الجزيرة العام" وانتهى مطالباً بـ "منح الجزيرة الحكم الذاتي الكامل". وعينت فرنسا السفير غابرييل بيو مفوضاً سامياً في سوريا ولبنان (22 تشرين الأول/أكتوبر 1939)، الذي تجاهل الحكومة الوطنية وأراد الاتصال المباشر مع الوجهاء والأعيان، ما زاد في إيقاع الانفصال سواء في الجزيرة أم السويداء واللاذقية. وقد جاء في تقرير استخباراتي سري موجه للحكومة:
"يلوح لي مما أقرأه في وجوه المتمردين وأحاديثهم أنهم باتوا يعتقدون اعتقاداً جازماً أن الجزيرة قد انفصلت أو تقرر انفصالها. ولذا راحوا منذ الآن يقسمون الوظائف، وقد زادهم هذا الاعتقاد نشاطاً في حركاتهم".[x]
أرسلت الحكومة في هذا السياق كمية من الأعلام السورية لرفعها إبان جولة المندوب الفرنسي "بيو" في الجزيرة، غير أن المتمردين أحرقوها، وكان بعضهم "يدوسوها ويتبول عليها" وسط أهازيج وشتائم.[xi]
عند وصول الجنرال بيو إلى الجزيرة (3 أذار/مارس 1939) نظم له الانفصاليون احتفالاً حاشداً، رفعوا فيه أعلام فرنسا ولافتات كتب عليها: "نضع شرفنا تحت حماية فرنسا"، و"الاستقلال أو الموت"، وكرروا المطالب بالاستقلال تحت الانتداب الفرنسي، فيما أكد الوطنيون –وفيهم أعيان قبليون كرد وعرب- على وحدة سورية.
وقد ذهب "بيو" في خطته لإقامة أنماط كيانية في الجزيرة والسويداء واللاذقية تحت عنوان: "حماية الأقليات"، ولكن "الحكومة الوطنية" في دمشق لم تستجب لضغوطه في هذا الاتجاه، وتزايد التوتر الذي انتهى إلى عودة الحكم الفرنسي المباشر وليس من خلال "حكومة وطنية".
*حدثت تطورات خطيرة الحرب العالمية الثانية، فاضطرت فرنسا لـ"الاستجابة" للمزاج والنضال الوطني والوحدوي للوطنيين السوريين، وأجلت مشاريعها الكيانية ولو أنها لم تتخل عنها بالتمام، إلا أن الأمور سارت خلاف تلك المشاريع، وكانت مركزة السلطة والدولنة هي الخيار الأقرب للسوريين والفرنسيين معاً. وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية بعام واحد، انجز السوريون استقلالهم الوطني بدولة واحدة موحدة، وكان جلاء الفرنسيين عن سورية في العام 1946، وانتهى تقريباً كل حديث علني عن كيانيات في سورية، إلى أن بدأت الأزمة السورية في العام 2011.
*سورية لك السلام.
---------------------------------
[i] يعتمد هذا النص على كتاب للكاتب بعنوان: كورد نامه: في أسئلة الثقافة والسياسة والدولة لدى الكرد، صدر عن مركز دمشق للأبحاث والدراسات، مداد، ودار الفرقد، 2018.
[ii] - محمد جمال باروت، التكون التاريخي الحديث للجزيرة السورية: أسئلة وإشكاليات التحول من البدونة إلى العمران الحضري، (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2013)، ص 376.
[iii] - المرجع نفسه، ص 393.
[iv] - ستيفن هامسلي أونغريغ، تاريخ سوريا ولبنان تحت الانتداب الفرنسي، مصدر سابق، ص 312.
[v] - مذكرة كردية سورية إلى حكومة الانتداب، "نطالب بإدارة خاصة مناسبة لمنطقتنا"، تموز/يوليو –حزيران/يونيو 1932، في: مجلة الحوار (كردية سورية)،العدد 56 صيف 2007، ص 75-87.
[vi] - فيليب خوري، سوريا والانتداب الفرنسي، سياسة القومية العربية: 1920-1945، ترجمة: مؤسسة الأبحاث العربية، (بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية)، ص 587.
[vii] - محمد جمال باروت، التكون التاريخي الحديث للجزيرة السورية، مرجع سابق، ص 441، ينقل عن: "حديث المفوض السامي الكونت دو مارتيل"، النذير، (23 تموز/يوليو 1937).
[viii] - محمد جمال باروت، التكون التاريخي الحديث للجزيرة السورية، مرجع سابق، ص 441.
[ix] - المرجع نفسه، ص 441
[x] - خيرية قاسمية، الرعيل العربي الأول: حياة وأوراق نبيه وعادل العظمة، (بيروت: دار الريس للكتب والنشر، 1991)، ص 387 وما بعد.
[xi] - جكر خوين، سيرة حياتي، ترحمة: جوان شوقي، (دون مكان: بافت للطباعة والنشر، دون تاريخ)، ص290.
نشر هذا المقال في موقع 5 نجوم على الرابط:


 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق