تطالعنا من أوقات لأخرى منشورات مختلفة تنبّه الناس إلى أشياء أساسية تحدث في مجتمعنا ومن حولنا
( مسألة الفيديو الشهر حول اسم ريتا مثلاً ) وخلال ساعات معدودة ينتقل الجدل بين السوريين كسوريين إلى : مع/ضد ، داخل/خارج ، محافظين/ علمانيين وإلى مستويات أخرى حلبي/شامي ريفي/مديني ...
فتبدو تلك الفقاعات أشبه بأعواد كبريت جاهزة لتشعل حرباً ثقافية واجتماعية ودينية بين السوريين.
لهذا الأمر مداخل ومخارج عديدة، ففي سياق الفهم لما يحدث يمكننا الاتفاق أن السلطات المتعاقبة في العقود الماضية قد جففت المساحات العامة وأغلقتها بالضم تارةً وبالقسوة تارة أخرى وبالملاحقة في أغلب الوقت، فأنهي أي نشاط مدني غير خيري لصالح منظمات شعبية تابعة سياسياً وعقائديّاً لحزب السلطة.
كما تقلّصت بفعل التطور الاجتماعي المقاهي العامة من طبيعة المقاهي الشعبية واليوم في كل دمشق مثلاً يمكن عدّها على أصابع اليد الواحدة، كما أدّى التطور لاختفاء الحيز المكاني والمساحي للفضاءات المشتركة فمثلاً أصبح حمام السوق تقليدياً رمزيّاً ضيقاً وأصبح للحدائق أسواراً وأبواباً تقفل عند الثامنة مساءاً وتغيّر شكل المقاعد للجلوس فيها ووضعت لائحة من الممنوعات على باب الحديقة لعمل أغربها ممنوع المشي على العشب وادخال الكرات !
ضاقت الأرصفة ولم تعد تتسع لأكثر من شخص وضاقت المنصفات كثيراً ونُزعت الكراسي العامة المنتشرة وقلّمت الأشجار بما لم يدع فرصة للاستراحة على قارعة طريق، تغير شكل كراسي الجلوس في المقاهي وصارت أكبر طاولة تتسع ل6 لايستطيعون فتح حديث واحد معاً.
أيضاً تم تحييد الجامعات عن أي تدخلات فكرية في المسألة الاجتماعية وبات هناك المساجد والكنائس فقط كمساحات عامة يمكنها لعب أدوار تعبئة وتم تضييق العمل فيها فمثلاً يُسمح بفتح المسجد قبل دقائق من الصلاة واغلاقه بعدها على عكس ما كان شائع في التاريخ حُصر مجال التأثير لهذه المساحات في الامام والخطيب والشيخ الذين يمكن لهم اعطاء دورس دين فقط يجيبون فيها عن أسئلة عقائدية وحياتية ولم يحدث أن عرفنا بحوار جرى في مكان ديني لمناقشة أمور الحي مثلاً ولو عمود كهرباء سيسقط.
جاءت المرحلة التعبيرية منذ 2011 كما يحلو لي تسميتها ولم يجد الناس مكاناً للتعبير متاحاً فخرجوا من المساجد للتظاهر علماً أنهم ليسوا بالضرورة روّادها التقلديين لكنها كانت مساحتهم الآمنة
وفي عصر وسائل التواصل الاجتماعي بات لكلّ منّا منصّة وهي حرّة بالمطلق نكتب ما نشاء، ندعم، نهاجم، نقوي، نضرب وحتى أمكننا أن نحرّف ونجتزئ وونكذب كما نريد، ولأننا في طور حداثتنا المدنيّة بعد عقود من الصمت تجدنا متحمّسين للحديث مع من يشبهنا ومن يدعمنا وكما حصل في الميدان فقد حصل في العالم الافتراضي باتت مساحاتنا مستقطبة ولكلّ مننا مساحاته السياسية والدينية والاجتماعية وحتى المناطقية وتلك التي تخص الطبخ والتسلية والأزياء وغيرها
الحديث عن النقاش العام الذي علينا فتحه اليوم ليس من نوع الترف الفكري والحداثي لكن تجربتنا الذاتية كسوريين تقول أن التحرك بمنشورات فقط أمر غير مجد اذا لم يترافق مع حراك فكري في الخلفية المعرفية وحراك ميداني ضمن القانون، وضمن القانون حصراً لأن أيّ مغامرة أخرى ستأخذ الناس إلى مطارح اختبروها مسبقاً، والقانون واسعٌ واسع .
هذا النقاش العام ليس عاماً تماماً وليس عشوائيّاً بالمطلق بل تقوده وتنظمه نخب محليّة (وليست نخب اقتصادية أو عائلية أو غيرها ..) قادرة على ضمّ الناس ليس بهدف التعبئة هذه المرّة بل بهدف التعبير، فكيف للجامعات والمدارس والبلديات والجمعيات أن تأخذ أدواراً أكبر لفتح النقاش العام وممارسته؟
والممارسة هنا ليست أن نحقق ما حلمنا بتغييره على مدار قرون بدقائق بل الممارسة أن نستمع لبعضنا ونحلل أكثر ونعرف أكثر ونفهم السياق الاجتماعي والسياسي والديني الذي نمر فيه ليمكّننا من لعب أدوار تطويرية وتغييرية في تفاصيله
إن مسألة النقاش العام لايجب أن تكون مرحلة بل يجب أن تكون هي المسار والعملية التي ينخرط فيها كل من بقي لديه ايمان بالقدرة على انجاز تغيير ما للمستقبل
وسيم السخلة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق